في خضم كل الخسارات والهزائم التي لحقت بالمنتمين إلى البقعة الجغرافية المسماة مخيم اليرموك، ظلت الأرواح الطيبة الشهيدة الخسارة الأكبر تلازمها عذابات المعتقلين التي تمثل الوجه الأشد ألما وشحوبا وانكفاء، وكانت على الجانبين الذكريات المبعثرة للضحايا تعيب كل من يقدمها درجة على أصحابها.
ولأنه لا مجال لإثبات المخيم من عدمه سوى باللجوء إلى وجهات نظر علمية وأدبية- ولا يفترض بأحد الوقوف عند دواعي ذلك اللجوء، لأنه بات سمة مركبة متعددة الاتجاهات- باعتبار أن تقبل وفهم ما جرى فيه أصعب من الإلحاح.
ويصح في هذا المساق أن تتضمن المحاولات تفسير ما جرى بتطبيق مبادئ الاستنباط والاستقراء، أو بالتوجه إلى نظريات الفلسفة والمنطق، أو بطرح وجهات نظر ساذجة أو تافهة أو ذكية، أو كيميائية أو ميتافيزيقية، أو حتى وجهة نظر فيزيائية مثيرة للاهتمام ذهب إليها أحد أصحابنا ممن عايشوا الحصار. والتتمة غير التامة وجهتا نظر إحداهما رياضية والأخرى تتراوح بين التقنية والأدب، تمثلان ذريعة قصيرة الأجل لتبرير مواصلة الخوض في الماضي بدل التطلع للمستقبل المجهول أو المعلوم، باعتبار أن الانتقال من حقيقة الهزيمة إلى نشوة الذاكرة يحتاج جرعات كبيرة من الكذبات البيضاء.
أما وجهة نظري الرياضية فتقول إن الهزائم ما هي إلا متوالية حسابية حدها الأول هو المخيم نفسه واللانهاية خاصتها هي اللامخيم، كلما زادت قيمة تسلسلها اقتربنا أكثر إلى اللاوجود أو العدم، و ليتآخى اللامنتهي والمنتهي بنقطة "اللامخيم"، وبما يتيح مجالا لتجرع مزيد من المرارات مع كل حد جديد للمتوالية، ويسمح باستذكار بعض الأشياء الجميلة لو قورن الحد الرياضي البائس بما يليه.
وأما وجهة النظر الثانية المكملة فهي متوالية سردية تعاقبية يطرحها أصحابها بأخلاق رغم كونهم يسردون أشياء فقدوها بشكل لا أخلاقي، وتثير الجدل لكون أن المتوالية السردية كمفهوم يختلف عليه الأدباء باعتباره أدبا أم مجرد تقنية تبنى على تتابع الأحداث وأسبابها، ليضع المخيم نفسه في عقدة الجدلية تلك طارحا ما آل إليه كحل لتلك الإشكالية، ما يعيد للمتوالية السردية أحقية اتصالها بالرياضي والمنطقي والفلسفي والتاريخي والجغرافي والفيزيائي وبأي طرح آخر أدبي أو فني أو حتى "قليل أدب"، مستمدة تفرعاتها من المخيم وفاتحة المجال للهروب من جذع شجرة السرد المتعاقب ذاك إلى إحدى ثمراتها الطيبة.
كل ذلك تمهيد ساذج، لتبرير أي شيء سيحكى عن غير الشهيد أو المعتقل، ففي تعقب كل الذكريات التي تتسرب، لا يفتقد لو افترضنا خسارة كل شيء بشري ومادي سوى رمضان بأجوائه و"حباشاته".
ولعل معظم اليرموكيين سواء أكانوا متدينين، لا دينيين، معتدلين، برجوازيين، شيوعيين أو فئات أخرى سقطت سهوا هنا، تعلقت جميعها بما فيه الكفاية بحال المخيم في هذا الشهر وما له من رمزيات شعبية. بل إن ضحكات أطفال المخيم تربطها علاقة بالقرع على التنكات توازيا مع الابتهالات ذات المغزى الروحاني.
ويبنى كل ذلك على أحد رموز الذاكرة متلخصا اسمه في كلمة لها محل من الإعراب اللغوي ولحاملها قيمة شعبية لا يدركها إلى فاقدوها...
المسـحراتي، وما أدراكم ما المسحراتي!
إذ يقول أحد هؤلاء: "والله مابعرف أقعد بالبيت لما يجي رمضان إلا إني أسحر لأنه هاي هوايتي".
وبعيدا عن وجهات النظر، فإن العبارة تلك وغيرها مع انعكاسات الكاريزما التي يتحلى بها الرجل الأول في رمضان اليرموك بطبلته وعصاه أو ما يوازيهما، هم جميعا عنوان النبش الأكثر انسجاما مع المتوالية الرياضية التي لا تنتهي.
كان نزار المسحراتي العائد من اليرموك إلى قطاع غزة هو صاحب الاقتباس السابق ضمن تقرير مصور أجراه معه تلفزيون سوريا، وصار الرجل من حيث لا يحتسب الملهم الحقيقي لاستعراض المخيم على مقاس مسحراتييه.
ولعل المبهج الموجع في الأمر أن المخيمجي الفلسطيني نزار ينادى بالسوري في غزة وهو الفلسطيني في اليرموك، فظل القريب إلى الجميع في مخيمه والغريب عنهم في وطنه! تتآلف فلسطينيته وسوريته بانسجامه مع ذاته رغم كل النعوت والتفاوتات الاجتماعية والثقافية العائمة على بقايا المخيم.
وبالعودة تاريخيا إلى المسحراتي اليرموكي، يستذكر أبي وثلة من أبناء الجيلين الثاني والثالث من لاجئي فلسطين في المخيم، المدعو "أبو شحادة الخطيب" ابن قرية بلد الشيخ قضاء حيفا، والذي كان مسحراتيا في اليرموك خلال سبعينيات القرن الماضي، يجول في شارعي الأهرام والقدس وحارتي الطبارنة والمغاربة، مناديا لهم بالاستيقاظ للسحور. ويعرج اليرموكيون في معرض حديثهم على خصلة طيبة تحلى بها الخطيب يوم كان ينقل "إعاشة اللاجئين" إلى بيوتهم بعربته الصغيرة مقابل نصف ليرة، ويتحدثون عن عمله الصعب في بيع مياه الشرب "الفيجة" لتأمين قوت عياله.
كما يستعرض اليرموكيون المخضرمون سيرة المسحراتي العراقي الملقب "أبو جميل الصفوري" والذي يكنى بالصفوري نسبة إلى زوجته "أم جميل عباس" من قرية صفورية قضاء الناصرة، حيث وافته المنية أثناء عودته من أداء مناسك الحج في ثمانينيات القرن الماضي قبل أن يحمل ابنه وشقيقه الأمانة ويقرعوا طبول المخيم.
ولا ينسى في دردشتهم المسحراتي المدعو أبو نادر الشحرور (الشامي) الذي توفي في الثمانينيات أيضًا إثر مرض في قدميه، وهو جار عائلة "أبو خلدون حجو" و"أبو سعيد السهلي" وكان يقطن قبالة صالة ليالينا في حارات شارع الجاعونة، وعمل مسحراتيًا في شوارع الجاعونة وفلسطين وحارة عائلة أبو راشد، والأحياء المحيطة بسينما الكرمل سابقا (صالة ليالينا) حيث يسكن.
ويمر في ذاكرتهم المسحراتي الشهير أبو العبد البرديني الذي كان يجول بطبلته طيلة عقدين من الزمن بدءا من دوار فلسطين وصولا إلى حي التضامن، وينادي على الناس بأسمائهم "يا أبو فلان قوم وحد الله" كما ينادي للأرملة باسمها، وهو تقليد آخر متبع في إيقاظ نيام رمضان. ويشتهر عن البرديني أنه افتتح دارا لمحو الأمية في المخيم تعلم أساسيات اللغة العربية لمن لا يعرفون القراءة والكتابة.
كما يحضر في الذاكرة الشهيد تيسير الشهابي الذي تقمص مع أصدقائه ومن بينهم والدي، دور المسحراتي في بعض ليالي المخيم ((برفقة المسحر أبو شحادة))
وفي زحمة مسحراتية المخيم يبقى المذكورون غيضا من فيض وجزءا بسيطا من من عالم رحب، تتلون ثيابهم وأدواتهم وصيحاتهم وأخلاقياتهم بتلون مراحل المخيم وتطور الأزمان وميول أهله نحو التمدن الذي سبق الفاجعة.
وصحيح أن اليرموك بحد ذاته يعتبر كبير المسحراتيين، إلا أن من فيه من "مسحراتية"، بلغة الشارع، حفظت لهم قيمتهم واحترامهم في صناعة الهوية من الهواية، حتى حين لم يعد هناك ضرورة لأي عملية إيقاظ عضوي أو فكري لأبناء المخيم. وظلوا مؤثرين في الأنا العميق سواء أتقنوا مهمة التسحير أم كانوا مجرد شكل من أشكال الفلكلور التائه بين جدران اللجوء المحدث وعراقة أسوار دمشق وعكا والقدس.
واللافت أن كثيرًا من المسحراتيين لا نعرف وجوههم، ونتفاجأ برؤيتهم فجأة في "وقفة" العيد الصغير "عيد الفطر" طلبا للعيدية، وهنا لن أضطر لأن أحلف مائة مرة لأثبت صدقي في أن أيا منهم لم ييقظني ولو لمرة واحدة في حياتي، لكنه ظل رمزا لليقظة في مخيم لم ينم إلا حين أجبر على النوم.
أما المثير للحزن والغصة إضافة لفقدان أجواء المسحراتي ذاك، أنه استهدف في وجوده البشري والثقافي كما كل أبناء مخيمه، إذ نفي من "المسحراتية" من نفي وهجر من هجر واستشهد من استشهد.
وقد علمت مؤخرا أن عمر عللوه "أبو سعيد" وهو المسحراتي الأخير الذي عرفته في محيط مسجد عبد القادر الحسيني وحارات شارعي صفد ولوبية وهي منطقتي السكنية، معتقل مخفى قسريا في السجون السورية منذ سبع سنوات عجاف.
نرجو أن تعود أبا سعيد سالما غانما إلى أهلك وأحبابك رغم طول الغياب، وأن تقرع على طبلتك رغم حلكة ليالي المخيم.
وكما بائع العرقسوس والتمر هندي وأصحاب البسطات وباعة وجبات السحور، ومثقفي المخيم وفتياته الجميلات وزعرانه الواقفين على زوايا شوارعه؛ يبقى المسحراتي جزءا لا يتجزأ من الحكاية، ويشكل معهم لوحة لا تعوض مهما كابر البعض ثم اكتشفوا ثقوبها وعيوبها، فالتفاصيل الصغيرة قادرة كل مرة على انتشال معظمهم من قلب الحداثة والعولمة إلى نقطة الصفر.
هو المسحراتي إذا صاحب الوجه الآخر للحياة التي غيبت عن المخيم بتغييبه ولم يبق منها سوى الذكرى والذاكرة.