فلسطين المحتلة- خاص قُدس الإخبارية: رغم الأمنيات والدعوات الفلسطينية بأن يحمل عام 2019 أحداثًا وأخبارًا أفضل من تلك التي وقعت في سابقه، إلا أن العام الجديد يبدأ مُحمّلاً بمجموعة من الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية على الصعيدين الداخلي والخارجي، أغلبها بدأت في العام الماضي، فيما ظهرت قبل ذلك مؤشراتٌ لبعض هذه الأزمات التي نعيشها الآن.
في هذا التقرير ترصد لكم "شبكة قدس الإخبارية" أبرز خمسة أزمات تواجه السلطة الفلسطينية في عام 2019، ويُمكن القول إنها تُشكل ألغامًا يُمكن أن يؤدي التعامل الخاطئ من طرف السلطة معها إلى انفجارات كبيرة قد لا تدفع وحدها ثمنها.
الإدارة الأمريكية.. السلطة تخسر الكثير
أول هذه الأزمات تتعلق بالعلاقة الآخذة في التدهور بين السلطة الفلسطينية والإدارة الأمريكية، وهي الأزمة التي تعززت عشية رأس السنة الجديدة، عندما أقر الكونغرس الأمريكي قانونًا جديدًا يهدف إلى التضييق على السلطة من خلال السماح لمواطنين أمريكيين فقدوا أقارب لهم في عمليات للمقاومة بالأراضي المحتلة أن يرفعوا دعاوى ضد السلطة للمطالبة بتعويضات مالية.
هذه الخطوة ليست إلا واحدة من سلسلة خطوات اتخذتها الإدارة الأمريكية خلال السنة الماضية، لمعاقبة السلطة الفلسطينية على رفضها الرعاية الأمريكية للمفاوضات مع دولة الاحتلال، وإعلانها عن رفض التعاطي مع خطة ترامب للتسوية السلمية المعروفة بـ"صفقة القرن".
الأزمة تأتي صعوبتها من عدم تدخل أي دولة ولا حتى الأمم المتحدة لتحقيق تقدمٍ في التسوية السلمية، بينما يقف العالم منتظرًا خطة ترامب التي لم تُحدد واشنطن موعدًا رسميًا لطرحها، باستثناء أخبارٍ نشرتها مواقع أمريكية وإسرائيلية ونسبتها إلى مسؤولين أمريكيين عن تحديد موعد طرح هذه الخطة، لكن هذه المواعيد جميعًا مرّت دون أن يحدث أي شيء.
وفي هذا الإطار، أعلنت السلطة أنها تنوي الذهاب إلى مجلس الأمن الدولي لطلب الحصول على العضوية الكاملة لدولة فلسطين، وهي الخطوة التي تعلم السلطة جيدًا كما يعلم الجميع أن الولايات المتحدة ستُفشلها باستخدام حق النقض "الفيتو". وتزداد هذه الأزمة عُمقًا في ظل انتهاء الوجود الرسمي الفلسطيني في واشنطن بشكل كامل، بعد إغلاق مكتب منظمة التحرير، وإلغاء إقامات الطاقم الدبلوماسي الرسمي الفلسطيني.
ورغم كل ذلك، تمضي العلاقات بين السلطة و"إسرائيل" تحت الطاولة على مستويات رسمية، وقد تم الكشف مؤخرًا أكثر من مرة عن اجتماعات تحدث بين وزراء في السلطة الفلسطينية، أبرزهم وزير المالية شكري بشارة، ووزير الشؤون المدنية حسين الشيخ، ووزراء ومسؤولين إسرائيليين، لكن هذه الاجتماعات كما يبدو لا تُحقق أي تقدم ملموس على الأرض يُمكن أن تستفيد منه السلطة الفلسطينية في جانب السيادة على الأرض، بل لا تعدو كونها اجتماعاتٍ لتسيير أمورٍ مرحلية وجزئية لا جوهرية ولا مفصلية.
أمام كل هذه الظروف، فإن عام 2019 يبدأ دون أن يحمل أي بشائر ولا حتى مؤشرات بالنسبة للسلطة الفلسطينية على صعيد مكانتها السياسية، وكذلك على صعيد علاقتها بالولايات المتحدة التي تُعدُّ ممولاً رئيسيًا للسلطة في مشاريع عديدة ومجالات مختلفة، ما يُنتح أزماتٍ أخرى تتعلق بعلاقات السلطة مع دولٍ ومنظمات عديدة تتبع للولايات المتحدة أو تستطيع الأخيرة التأثير عليها، بعضها دولٌ عربية تلعب دورًا أيضًا في تمويل السلطة ودعمها.
التطبيع.. لا حاجة للسلطة
منذ إنشائها، ظلّت السلطة الفلسطينية تستخدم العلاقات العربية مع دولة الاحتلال ورقة ضغطٍ أساسية وربما يتيمة أحيانًا من أجل دفع "إسرائيل" إلى التقدم في التفاوض معها. أي أن السلطة ظلت لعقدين، البوابة التي يجب أن يحدث من خلالها التطبيع الرسمي على جميع المستويات بين الدول العربية و"تل أبيب"، ولأجل تحقيق ذلك يجب التوصل أولاً إلى تسوية شاملة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
الأزمة التي ورثها عام 2019 عن العام الذي سبقه في هذا الجانب؛ تتعلق بالتطور غير المسبوق في جانب التطبيع بين دول عربية ودولة الاحتلال، وصعوبة هذا الأمر بالنسبة للسلطة أن إحدى هذه الدول التي تغرق في التطبيع المملكة العربية السعودية، التي فتحت العام الماضي أجواءها أمام الرحلات الجوية "المدنية" الإسرائيلية، والتي تدفع بالبحرين نحو علاقاتٍ رسميةٍ سيُعلن عنها في أقرب وقتٍ رسميًا، وهو ما يعتبره خبراء ومراقبون محاولة من الرياض إلى استخدام المنامة في تهيئة الأجواء لتطبيعها ومعها الإمارات العربية المتحدة مع الكيان.
عُمان أيضًا سبقت من جانبها الجميع إلى مد يدها علنًا لدولة الاحتلال، فاستقبلت نتنياهو ووزير المواصلات يسرائيل كاتس، واحتفلت بهما رسميًا، وهي تمضي نحو علاقات دبلوماسية كاملة ومفتوحة. يُضاف إلى ذلك، التطور الملحوظ -تدريجيًا وليس على عَجَل- من جانب قطر في هذه الحالة، وهي التي فتحت أبوابها أمام وفودٍ رياضية إسرائيلية في العام الماضي، أحدها ضم جنديًا في جيش الاحتلال، وهي تستقبل العام الجديد بتعهدات لـ"إسرائيل" بالسماح للإسرائيليين بدخول أراضيها خلال المونديال، بل تفتح أراضيها أيضًا أمام إقامة مطعم لطباخ إسرائيلي شهير.
هذه الخطوات التطبيعية التي وصفها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بأنها "غير مسبوقة"، سحبت ورقة التطبيع من يد السلطة الفلسطينية، والآن لم يعد على "إسرائيل" أن تُقدم أي تنازلات للسلطة، أو تُحقق أي تقدم في التفاوض معها، ولا أن تمنحها أي مكاسب، من أجل إقامة علاقات رسمية مع دول عربية، بل أصبحت إقامة هذه العلاقات رسميًا مسألة وقت فقط، وإن كان في الأمر وساطة فهي وساطة أمريكية فقط، بل ووساطة عربية أحيانًا.
يطرح هذا الواقع أسئلة هامة عن ما يُمكن أن تفعله السلطة بعد الآن للضغط على "إسرائيل" في ظل الانتهاكات المتواصلة لسيادتها، وماذا تفعل في ظل تدهور علاقاتها مع دول عربية بشكل كامل مثل الإمارات، أو جزئي مثل قطر وحتى السعودية، مقابل تطور علاقات هذه الدول مع "إسرائيل؟ وكيف ستتعامل مع الضغوطات بل والابتزاز الذي ستقوم به هذه الدول وعلى رأسها السعودية -بعد الانفتاح على إسرائيل مستقبلاً- لتقديم تنازلات في بعض القضايا الجوهرية التي تُعرقل سير المفاوضات، مثل القبول بالرعاية الأمريكية وصفقة ترامب، والتنازل عن اعتبار القسم الشرقي المحتل من القدس عاصمة للدولة الفلسطينية المأمولة، وقضايا أخرى مثل اللاجئين والاستيطان.
حل التشريعي والمصالحة شبه المستحيلة
عشية حلول عام 2019، خرج الرئيس محمود عباس بتصريحٍ غير مسبوق عندما وصف حركة حماس بأنهم "جواسيس"، وذلك بعد أيام من إعلانه عن حل المجلس التشريعي وإجراء انتخابات تشريعية، وهذه الخطوة ترفضها بالدرجة الأولى حركة حماس، خاصة مع وجود شرطٍ للترشح للانتخابات المقبلة، يجعل على حماس تقديم تنازلٍ جوهري يتعلق بموقفها من الانضمام لمنظمة التحرير، أو عدم قدرتها على المشاركة فيها. والشرط المقصود هنا هو ما جاء في الفقرة السادسة من المادة (45) بخصوص الترشح لعضوية المجلس، وقد نصت على "أن يلتزم بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وبوثيقة إعلان الاستقلال وبأحكام القانون الأساسي ".
هذا الشرط وقبله حل التشريعي وإجراء انتخابات تشريعية دون الانتخابات الرئاسية، وتخوين أبو مازن صراحة لحماس، يُدخل الانقسام في مرحلة جديدة يُصبح فيها انتهاؤه شبه مستحيل. بل يدفع باتجاه تعقيدات كبيرة وقمع مضاعف من الأجهزة الأمنية في الضفة لأنصار حماس، والأجهزة الأمنية في غزة لأنصار فتح، وهو ما ظهر بوضوح في الأيام الأخيرة من السنة، من خلال استدعاء أكثر من 30 كادرًا فتحاويًا في غزة للتحقيق، واعتقال عدد من النشطاء في الضفة لدى الأمن.
في هذه الأثناء، توقفت الجهود المصرية لتحقيق المصالحة، ومضت القاهرة نحو حلٍ جزئيٍ للحصار في قطاع غزة بعيدًا عن السلطة الفلسطينية، لإرضاء دولة الاحتلال التي بدأت تقتنع أكثر بأن استمرار الحصار مع الإجراءات العقابية التي تُنفذها السلطة بحق قطاع غزة يعني انفجارًا كبيرًا في وجهها. وبهذا فإن غزة تمضي نحو مفاوضات لتخفيف الحصار عن غزة، تتسارع أحيانًا وتضعف أحيانًا أخرى، وكذلك نحو انفراجٍ محدود في الحالة الاقتصادية، تلعب مصر وإسرائيل وقطر الدور الرئيسي فيه بعيدًا عن السلطة بشكل كامل، بينما تبقى الأوضاع الأمنية والسياسية بين فتح وحماس معلّقة مع مؤشراتٍ لتصعيد وقمع وعنفٍ قد يُذكر بأحداث سنة 2007، ويزداد وضوح هذه المؤشرات كلّما اقترب موعد الانتخابات التشريعية.
الاقتصاد والطاقة.. انهيارات جديدة
ليس جديدًا في الضفة الغربية أن هناك أزمة اقتصادية تتفاقم عامًا تلو آخر، إلا أن 2019 يبدأ مع توسّع رقعة هذه الأزمة مسببة مزيدًا من الضرائب والجمارك التي ترفع الأسعار أكثر في الضفة، حيث يزيد غلاء المعيشة في بعض مناطقها -مثل رام الله ومحيطها مثلاً- عن غلاء المعيشة في دولٍ تتمع باقتصادٍ قوي، مثل الإمارات وقطر وبريطانيا، وفق تقارير اقتصادية منشورة سابقًا.
أحدث هذه التطورات تمثلت في رفع جمارك السيارات المستعملة المستوردة، ما يُهدد أكثر من 300 شركة تعمل في هذا المجال ويعمل فيها 5 آلاف موظف بالإفلاس، وهو ما دفع هذه الشركات إلى إعلان الإضراب المفتوح عن العمل منذ بداية السنة الجديدة.
ومع انقضاء عام 2018، كانت الإدارة الأمريكية قد قطعت التمويل الذي تدفعه بشكل مباشر، أو تدفعه وكالة "USAID" بشكل كامل عن السلطة الفلسطينية، ما أسفر عن توقف العمل في مشاريع تطويرية كثيرة تتعلق بالبنية التحتية، وكذلك توقف العمل في منظمات ومشاريع كثيرة تُشغّل موظفين في القطاع غير الربحي، وهذا وضع أمام السلطة تحديًا كبيرًا يتعلق بتوفير بدائل لهذا التمويل، ويبدو واضحًا أنها قررت أن تكون هذه البدائل من خلال الضرائب والجمارك، ما يعني أن الوضع الاقتصادي والمالي للناس في الضفة الغربية يغوض في ظلمات بعضها فوق بعض داخل النفق المظلم أصلاً الذي دخلت فيه السلطة قبل أكثر من سنة.
إضافة لذلك، فإن المنخفضات الجوية الأخيرة في الضفة دقَّت ناقوس الخطر بشأن مستقبل الكهرباء. هذه الأزمة ليست جديدة بالكامل، لكن الجديد فيها هي توسع رقعة المناطق التي يشملها قطع التيار الكهربائي ورداءة الخدمة في الضفة، بل وزيادة ساعات انقطاع التيار الكهربائي بشكل متواصل.
يحدث ذلك في وقتٍ يدور فيه الحديث عن نية إسرائيل تخفيض كميات التيار الكهربائي التي تمنحها للشركات الإسرائيلية، وأحاديث عن جدول وصل للتيار الكهربائي في بعض مناطق الضفة سيتم الكشف عنه قريبًا.
الاستقرار والحريات.. رقعة المتضررين تتوسع
الأزمة الخامسة، وليست آخر الأزمات، تتعلق بالواقع الأمني والاستقرار في الضفة الغربية، الذي يشهد تهديدات جديدة من داخل المجتمع الفلسطيني، تُضاف إلى التهديد القائم والمتواصل من جانب جيش الاحتلال الإسرائيلي. هذا إضافة لاستمرار التدهور عامًا تلو آخر في واقع حريات التعبير والاحتجاج في الضفة.
هذه الأزمة كشفت عنها الاحتجاجات على قانون الضمان الاجتماعي، فبعد أن كان القمع متعلقًا سابقًا بالاحتجاجات على الحالة السياسية، مثل قمع المظاهرات باتجاه خطوط التماس، أو قمع منتقدي السلطة والمحتجين على العقوبات ضد غزة، اتسعت رقعة القمع لتشمل العمال والموظفين في القطاع الخاص في مختلف المهن والمجالات.
حتى الآن استخدمت السلطة نهج إقامة الحواجز ومنع الوصول إلى مناطق الاحتجاجات، وإغلاق الطرق، لكن مع إصرارها على رفض إلغاء القانون أو حتى تجميد العمل به لحين تعديله، ثم تعيين مدير عام لمؤسسة الضمان الاجتماعي بشكل مخالف للقانون، وتجاهل الاستقالات داخل مجلس إدارة مؤسسة الضمان، فإن المؤشرات تذهب نحو ظروفٍ أسوأ في هذا الملف.
المحتجون على قانون الضمان رفضوا التعديلات التي اقترحها المدير المُعيّن ماجد الحلو، وأكدوا تنظيم وقفات احتجاجية في رام الله في يومين من الشهر الجاري، قالوا إنها ستتضمن مفاجآت وستشهد مشاركة ضخمة وكبيرة، قبل أن يتبعها إضرابٌ عن العمل، ما يضع السلطة أمام اختبارٍ صعبٍ جدًا في التعامل مع الاحتجاج الأوسع منذ سنوات، كونه يشمل هذه المرة موظفين من مختلف المجالات والتخصصات ومن كافة المحافظات في القطاع الخاص الضخم، ويتعلق بمسألة بمصيرية وجوهرية بالنسبة لهؤلاء، كما يتعلق بمسألة مصيرية بالنسبة لمشغليهم من رؤوس الأموال، وذلك خلافًا لما حدث في حراك المعلمين مثلاً الذي اقتصرت فيه الاحتجاجات على شريحة المعلمين في القطاع الحكومي فقط، وقد كانت مطالبهم خلاله تهدف إلى تحسين ظروفهم السيئة، لكنها لا تتعلق بلقمة عيشهم وقد تؤدي إلى انقطاع أرزاقهم كما هو الحال في الاحتجاجات على قانون الضمان.
ومما يزيد الطين بلة بالنسبة للسلطة، أن الاحتجاجات التي انتقلت من عام 2018 إلى 2019 لا تقتصر على القطاع الخاص، بل تشمل أيضًا قسمًا من موظفي القطاع الحكومي والخاص معًا، وهم الأطباء، الذين قرروا خوض إضرابٍ شامل ومفتوح بدءًا من ثاني أيام العام الجديد، احتجاجًا على قانون المساءلة الذي أقرّته الحكومة بشكل مفاجئ دون الاتفاق مع نقابة الأطباء، ما يعني أن أزمة الاحتجاجات هذه المرة من داخل القطاع الحكومي، ومن القطاع الخاص الكبير أيضًا، ويشترك فيها رجالٌ ونساءٌ من مختلف الفئات العمرية، ومن جميع الشرائح، ومن جميع المرجعيات السياسية والفكرية.
هي إذن أزمات تتعلق بالاستقرار، والاقتصاد، والأمن، والسياسة، والقانون أيضًا، يأتي قسمٌ منها من الداخل، والقسم الآخر من الخارج، لتُحكم الخناق على السلطة الفلسطينية وتجعلها في مأزق حقيقي تزداد صعوبته على طول الأيام، بينما لا تبدو السلطة أنها تحمل رؤية واضحة أو منهجًا سليمًا في التعامل مع هذه الأزمات والسعي للسيطرة عليها، ما يُهدد بانهيارٍ شامل وعواقب غير محمودة سيدفع ثمنها الجميع.