نهار متوتر جدا في رام الله خاصة للعاملين فيها من باقي المدن الفلسطينية، فالجميع يترقب تطور الأحداث والأخبار المتعلقة بمسيرات المستوطنين الإسرائيليين على مداخل المستوطنات الملاصقة للطرق الخارجية التي تصل مدن فلسطين ببعضها. لا مفر من المرور من أمام هذه المداخل والتعرض لما تجود به أنفس المستوطنين من شتائم وإلقاء حجارة وحتى إطلاق نار متمترسين وراء جيش الإحتلال والشرطة الإسرائيلية. تزداد حدة التوتر بعد كل خبر عن إصابة أو مهاجمة سيارة، فكل من يمر من هذه الطرق معرض للهجوم.
أنا و4 من أصدقائي قررنا أن نسلك طريقا من رام الله لأريحا ومن ثم لنابلس وذلك بعد التأكد من عدم تجمهر مستوطنين على هذه الطريق والتي ستحتاج لعدة ساعات مقارنة بساعة واحدة في الأيام الهادئة من رام الله لنابلس. انطلقنا من رام الله بحدود السادسة مساء حيث واجهنا أول حاجز إسرائيلي مؤقت قام بإجبارنا على سلوك طريق أخرى، ثم حاجز ثاني مؤقت يمحوا خطتنا للوصول لأريحا تجنبا للطرق التي تعج بالمستوطنين. ثم حاجز ثالث على مدخل قرية ترمسعيا والتي على اليمين تؤدي لنابلس وعلى اليسار تؤدي لرام الله وللخلف نعود لداخل القرية وإلى الأمام طريق مجهول! قام الجندي بإجبارنا مرة أخرى على سلوك الطريق المجهول لنا والذي يؤدي بشكل مباشر لمدخل مستوطنتين. في بداية الطريق توقفنا لسؤال شرطي إسرائيلي إن كان بالإمكان العودة لرام الله والذي رفض التحدث وأصر على توجيهنا لإستكمال الطريق الذي نحشاه. أثناء تحدثنا مع الشرطي مر بمحاذاتنا باص للمستوطنين قاموا بإلقاء زجاجات فارغة على سيارتنا فلذنا بالفرار وهنا استهلكنا أول جرعة من الأدريناين.
بعد دقائق من القيادة الحذرة على هذه الطريق، نواجه سيارة للشرطة الإسرائيلية تشكل حاجز بين مسيرة للمستوطنين وبين 9 سيارات فلسطينية ربما مروا بنفس مسار رحلتنا للخروج من رام الله. انتظرنا ربما ساعة نتفكر بالخيارات التي لدينا وهي إما الإنتظار لتأمين الطريق من قبل الشرطة الإسرائيلية منعا للمواجهة المحتمة بين الفلسطينيين وبين المستوطنين. وإما العودة من حيث أتينا للبقاء بقرية ترمسعيا فربما يسمح الجنود لنا بالدخول إليها. تجاوز بعض الشباب دورية الشرطة الإسرائيلية لإلقاء نظرة عن كثب على تجمع المستوطنين لتقييم الموقف، وهنا عادوا بخبر بدد كل آمالنا بالمرور من هذه الطريق وهي ملاحظتهم لزيادة الحشد في صفوف المستوطنين والأخطر من ذلك ملاحظتهم لوجود عدد كبير من المستوطنين المسلحين.
في هذه الأثناء كانت تمر سيارة لمستوطن من خلالنا تقل عدد من الصبية والشبان، تكرر مرور هذا المستوطن الكبير بالسن وقدرنا أنه ربما يقوم بمساعدة هؤلاء المستوطنين للمرور بطريق آمن من خلالنا لإيصالهم لبيوتهم. كان المستوطن يمر من خلالنا بكل أمان ودون أي إعتراض من قبلنا لأن كل ما يهمنا هو عدم زيادة التوتر والإستفادة من تواجد حماية الشرطة الإسرائيلية والتي قد تنقلب علينا بأية لحظة. بعد تقييم الموقف أخبرت صديقي بأن تواجدنا هنا يزداد خطورة، فحشد المستوطنين يزداد وبينهم مسلحين ودورية شرطة واحدة سوف تعجز عن الفصل بيننا لذلك القرار الحكيم أن نعود لأقرب نقطة آمنة وهي ترمسعيا. وافقني بالرأي أصدقائي جميعا كما وافقنا بنفس الرأي بعض من السيارات المتواجدة معنا.
طلبت من صديقي أن نكون أول سيارة تمر للإستفادة من عنصر المفاجأة في حال ظهور ما هو غير متوقع لكن سبقنا لذلك سيارة نقل كنا وراءها مباشرة. بعد أقل من 100 متر نرى وابل من الحجارة تنهال على سيارة النقل ونحن من وراءها وبدأ المستوطنون يهرولون باتجاه سيارتنا ويلقون بالحجارة وهنا بسرعة طلبت من صديقي أن لا يدور بسيارته للتراجع وإنما أن يرجع للوراء reverse بأقصى سرعة وهنا كان عمل فريق متكامل للهروب من الخطر حيث كنت وصديقي الجالس بجانب السائق نعطي تعليمات عن ما نراه في الخلف ليتجنب باقي السيارات دون صدمها، وصديقنا الآخر يقرأ سورة يس. نجونا بأعجوبة للمرة الثانية وتحطمت العديد من السيارات خاصة ممن قرروا الدوران بسيارتهم حيث وقعوا بفخ المستوطنين. واصطدمت سيارة بالحماية الموجودة على طرف الطريق الذي كان على وشك السقوط من سفح الجبل. هذه الطريق مرتفعة على سفح جبل حيث من السهل نزول المستوطنين علينا من فوق ومن المستحيل النزول للهرب أو التقدم لمواجهة مسيرتهم أو التراجع للعودة.
في هذه اللحظة أيقنا أنه لا مفر من المواجهة، فقد تمت محاصرتنا من كل الإتجاهات وهي مسألة وقت لنزول المستوطنين من الأعلى وبهذا نكون صيدا سهلا لهم. قمنا بتجميع كل ما وقعت عليه أعيننا من حجارة ووضعها بجانب الطريق لتكون وسيلتنا للدفاع عند المواجهة. توجهت والبعض من الموجودين للشرطي وأخبرناه أننا محاصرون وإذا قرروا الإقتراب سندافع بكل ما أوتينا من قوة وأنه سيتحمل مسؤولية أمننا وحياتنا حيث أن المستوطنين مسلحين ويبعدون عنا بضعة أمتار. هنا إرتبك الشرطي وتوجه بنفسه لتقييم الموقف عاد مسرعا ومرتبكا بعدما رأى الحصار والفخ الذي وقعنا فيه. هنا قال لنا استعدوا داخل سياراتكم وانتظروا فخلال 5 دقائق ستأتي قوات الجيش لتأمين ممر آمن. من المحزن أن تشعر بالأمان عند ذكر حضور قوات الإحتلال، لكن ليس باليد حيلة. فعلا خلال دقائق قام الجيش بتأمين طريق العودة وأخبرنا بأن نسرع قدر الإمكان لإخلاء المنطقة. والمفاجأة كانت أن الشبان الذين كانوا يرشقوننا في طريق العودة هم من قام المستوطن بنقلهم من بين صفوفنا وذلك حسب تقييم الشرطي الإسرائيلي.
طلبت من صديقي الذي يقود السيارة بأن يكون أول المتقدمين للإستفادة من دقائق الأمان التي منحنا إيهاها جيش الإحتلال. فعلا كنا أول المتقدمين وبسرعة فائقة وبتوتر وخوف بالغين، خطتنا كانت الدخول لترمسعيا لتنفس الصعداء والتي خلال دقائق نصلها في نهاية هذا الطريق الخطر.
قبل نهاية الطريق واجهنا حاجز إسرائيلي لم يستوقفنا أثناء دخول الطريق ولأننا مسرعين لم نتمكن من إيقاف السيارة إلا بعد أمتار من الحاجز حيث استنفر الجنود وهرولوا باتجاه السيارة وأصوات صراخهم تعلوا باللغة العبرية محاصرين السيارة ورافعين أسلحتهم علينا ونحن نحاول إخبارهم بأن الجيش هو من قام بتوجيهنا للعودة من هذه الطريق. استمرت أصوات صراخهم وقاموا بإجبارنا على الدخول من طريق فرعي صغير بمحاذاة الحاجز. قمنا بدخول الطريق ومن بعدنا بدأت باقي السيارات تمر من ورائنا بعدما رأوا ما حل بنا من خطر أثناء اجتياز الحاجز. وهذه كانت المرة الثالثة التي يمن الله فيها علينا بالنجاة من موت محتم في هذه الليلة.
أثناء دخولنا من هذه الطريق الضيقة ببطء شديد كنا نترقب بتوتر إلى أين ستوصلنا هذه المرة. عندما رأينا بعض البيوت العربية على جانبي الطريق تنفسنا الصعداء واتفقنا أن لا مزيد من المحاولات ولنجد أي مكان نتوقف فيه يكون مناسب لقضاء الليلة بداخل السيارة. بعد دخولنا من الطريق وازدياد عدد البيوت العربية نلاحظ حشد من الشبان على جانبي الطريق يرحبون "أهلا وسهلا"، "استمروا للأمام"، "التفوا لليمين"، "تفضلوا ببيوتكم"... ترتسم على وجوه كل من بالسيارة ملامح الإستغراب، أين نحن، من هؤلاء، كيف توقعوا قدومنا، لماذا يرحبون بنا، لماذا هذا العدد من شباب البلد في الخارج في هذا الوقت حيث الساعة ال 9 ونصف والبرد الشديد أقل من 9 درجات، ما الذي يحدث!
"ادخلوا إلى قاعة البلدية"، "مرحبا بكم"، "أنتم بأمان"، "العشاء جاهز". نبتسم أنا وأصدقائي باستغراب "أي عشاء، من دقائق وعلى بعد أمتار كنا تحت نيران قوات الاحتلال". أثناء دخولنا يسأل أهل البلد "هل الجميع بخير"، ويسأل من معنا من موكب السيارات "ماذا حل بمن كان بالسكودا وهاجمهم جنود الحاجز". نجيب أنا وأصدقائي "نحن هنا ونجونا الحمدلله". أثناء دخولنا للقاعة كانت لا تزال قلوبنا تنبض بالخوف من الموقف الذي نجونا منه وعقولنا غير قادرة على تحليل ما نحن به الآن. فنحن ندخل لقاعة مليئة بأهل البلد الذين أحضروا المدافئ والأغطية والفرشات والطعام والفواكه والقهوة والشاي والتمر والمشروبات البادرة والمياه. قاعة نظيفة وكبيرة ومنظمة والعديد من الشبان يمرون علينا ويقدمون لنا الطعام وتتكرر اسئلتهم "ماذا تحتاجون، نحن بخدمتكم، بيوتنا وقلوبنا مفتوحة لكم".
أقرب ما يمكن أن يوضح ماهية صدمتنا عند الإنتقال المفاجئ من محاولات لإيذائنا ومن الخوف وخلال دقائق نكون في بيئة محببة ولطيفة ومضيافة وآمنة هو قدرة العقل التحليلية والتي تعجز عند التحولات المفاجئة والشبيهة بتجربة وضع يدك في كأس ماء بارد ومن ثم بشكل مباشر وضعها بكأس ماء ساخن.
بلدة سنجل الفلسطينية، التي أخذ أهلها على عاتقهم تأمين الملهوفين، استضافونا ليلة كاملة وسهروا على راحتنا دون كلل أو ملل. دخلنا هذه القرية الآمن أهلها بحدود ال 9 مساء وأصرينا على مغادرتها في ال 5 صباحا حيث حاولوا منعنا من المغادرة خوفا على سلامتنا. لكننا ارتأينا أنه أفضل وقت للمغادرة قبل بدء يوم جديد من اعتداءات المستوطنين. أصروا بأن يستكشفوا الطريق التي توصلنا للطريق العام بأنفسهم قبل أن نتحرك. يا إلهي ما الذي يحرك هؤلاء الأفراد، لماذا كل هذا الإهتمام فقد قاموا بواجبهم وأكثر لتأميننا واستضافتنا. لم نسمع خلال فترة استضافتنا أي شعارات حزبية، لم نسمع أي شعارات لأفراد ومسؤولين، لم نسمع أي شعارات لموؤسسات. كانوا أهل البلد من تلقاء أنفسهم، لم يحركهم سوى الخوف واللهفة على أبناء وطنهم. لقد استمروا بالسهر معنا حتى الصباح، حيث أنا ومن معي بالسيارة وبعضا من الموكب لم يتمكنوا من النوم بالرغم من الراحة والدفء الذي أمنوه لنا في بيوتهم وفي قاعات البلدية. سهرت أنا وأصدقائي في قهوة تبعد امتار عن مبنى البلدية، عند دخولنا للقهوة يرحب بنا كل من فيها ويقولون أتيتم من مبنى البلدية، أهلا وسهلا. دقائق ونرى أنهم يحضرون لنا العشاء مرة أخرى ومن ثم الفواكه ومن ثم المشروبات وحتى الأرجيلة. "يا إلهي، لقد ظننا أننا هربنا من كرم الضيافة في مبنى البلدية وإذا به يلاحقنا للقهوة"، هكذا حال بالنا أنا وأصدقائي عند دخولنا للقهوة.
تناقشت أنا وأصدقائي بما يحدث، حيث اتفقنا أن إغاثة الملهوف تكفي بان توفر له مكانا آمنا لقضاء الليلة ووجبة عشاء تسد رمقه. لكن أهل سنجل طريقتهم بإغاثة الملهوف مميزة ولا تقتصر على توفير الراحة والإمان وإنما توفير الجو العائلي والمحبة الصادقة. جلسنا بالقهوة ربما ساعتين مستمتعين بأحاديث أهل البلد وترحيبهم بنا وبكرم ضيافتهم. ثم عدنا لمبنى البلدية للنقاش مع من كان معنا وتفقد الأخبار المتواترة عن تزايد اعتداءات المستوطنين وعن تجهيزاتهم لمسيرات في يوم الجمعة.
تجمعنا أنا وأصدقائي أمام مبنى البلدية محيطين بموقد نار مع بعض من شبان البلدة. سرعان ما تحول هذا التجمع لسهرة سمر حيث أحضروا الكراسي وزاد عدد الحاضرين الراغبين بالسهر معنا حتى يحين وقت مغادرتنا وتوسع موقد النار ليصل الدفء في هذه الليلة الباردة لكل من حولها. يحضرون الأرجيلة، والفواكه، والمكسرات، والشاي الساخن طوال فترة السهرة التي امتدت حتى ال 5 صباحا. تتعالا ضحكاتنا طوال فترة السهرة من النكت والأحاديث الممتعة ونكشات الراس على صديقنا أبو الحُب. يحضرون العشاء للمرة الثالثة لكن هذه المرة من شاب ينضم إلينا متأخرا ويعلم للتو ماذا حدث لنا وكيف وصلنا للقرية، أخبر صديقي ممازحا "استمتع بعشائك رقم 3، فربما لن تجد هذا الدلال لو كنت عند زوجتك".
سبحان الله كيف بدأنا هذه الليلة برحلة مرعبة وبمصافحة للموت، وكيف تحولت لأجمل سهرة سمر في #سنجل. بعض الذكريات تحفر بالذاكرة لكن هذه الذكرى حفرت بالقلب. الحمدلله على وجود هذا الحب والإهتمام بين أهل فلسطين.
بحدود ال 5 صباحا، أصرينا على المغادرة حيث هدأت الأوضاع على الطرقات وليس من الحكمة الإنتظار لضوء النهار لنكون صيدا للمستوطنين. وهنا تظهر المحبة والتضحية مرة أخرى حيث يصر سائقي المركبات الأكبر أن يكونوا في المقدمة لتلقي الضربات التي ربما لن تتحملها المركبات الأصغر. يتشكل موكبنا من 10 سيارات مرتبة حسب الحجم معظمها مهشم النوافذ، بين كل مركبة والأخرى مسافة كافية للإلتفاف في حال الطوارئ. ودعنا أهل سنجل تاركين جزءا من قلبنا فيها. متوكلين على الله يمر موكبنا بطرق فارغة ومخيفة كطرق الأشباح. عيوننا على النوافذ لتفحص جوانب الطرق من المستوطنين المتربصين. ندخل نابلس ونتنفس الصعداء ونحمد الله على السلامة في ال 5 ونصف صباحا.
من لا يشكر الناس لا يشكر الله، نحمد الله على وجود أهل سنجل في هذه الرحلة. ونشكر كل شاب وكل رجل في هذه القرية العظيمة لقد سهروا معنا حتى الصباح من صغيرهم لكبيرهم حتى أن رئيس البلدية "الدكتور" أصر على البقاء منذ لحظة دخولنا حتى مغادرتنا.