شبكة قدس الإخبارية

المُثقّف وشبيهه

يمنى طاهر

يبدو لي أن أصعب ما سأواجهه في مقال يتحدّث عن المثقف هو محاولة تعريفه، بعيدا عن الأنماط السائدة، بعيدا عما تمتليء به الكتب من أوصاف يطول شرحها وتتعدّد مفاهيمها.ليس هذا فقط لكون الواقع أضفى صفات أخرى على هذا "المثقف" الذي يزداد غرابة يوما بعد يوم، ولكن أيضا للمسافة الموجودة دائما بين الكلمة والفعل، الكلمة بمعناها الواسع، والفعل بمعناه الواسع أيضا.

في رأيي أن أهم صفة في المثقف أنه لا يقرأ كثيرا. كثيرا هنا لا تعني عدد الكتب والأبحاث و و و .. بل تعني نسبة هذه الكتب التي تتراصّ بانتظام في عقله، مُضافة إلى التجربة.

ما هي التجربة؟ التجربة هي تفاعل نص ما مكتوب، مع واقع آخر، ما ينتج عن هذا التفاعل دائما يكون خطوة أخرى للأمام، خبرة ولدّت نظرة مختلفة للكون، للمجتمع والناس، نظرية قائمة بذاتها وإن لم يُدرك صاحبها أنه مُنظّر.

الشخص القادر على إنتاج المعاني من تفاعل قراءاته مع الواقع بصدق وشعور عميق هو ما يمكن أن نُطلق عليه وصف "المثقف"، القراءات ليس شرطا أن تكون كلمات، بل كثيرا ما تكون مواقف فقط. وهذا يوضح كم هم قلّة وأخفياء، وكم ابتذلوا بأشباههم.

هل القراءة ضرورة للمثقف؟ ربما لا ! هذا غريب أعرف، لكن ما يجعله حقيقياً جدا هو هؤلاء الغرباء الذين تلتقيهم فجأة، لم يكملوا تعليمهم، ولم يقرأوا لنيتشه والكواكبي أو المرزوقي وفوكو، لم يقوموا ببحث واحد في حياتهم ولم يمسكوا الميكروفون لإلقاء المحاضرات القيمة وحصد الثناء والإعجاب، لكن لديهم وعيّ عميق وحكمة خفية في التعامل مع الواقع، تُمكنّهم من الوقوف في وجه الحياة بثبات، والاهتداء إلى المواقف الصائبة قدر المستطاع، وإلقاء الِحكم المُستمّدة من التجربة، الِحكم الحقيقية كما هي نابعه من مصدرها الأصلي، من الحياة. والتي تُقال بعفوية لا يُدركها صاحبها، هو لا يعرف الحدّ الفاصل بين أن تقوله الكلمات أو يقولها، ليس ثمّة مسافة بينه وبينها، لأنه يعيشها.

قابلت أحد هؤلاء بتركيا، كان هناك قطع ما في شنطة صوفية بديعة لديه، قال : “يمكن أن أخيط القطع، فهي صناعة يدوية على كل حال، لكن لا أعِد أنه سيكون كاملا وسليما تماما، فأنا إنسان لست آلة" لقد قالها بتلقائية وعفوية أدهشتني.

أخبرني أنه لم يُكمل تعليمه، وأنه لا يقرأ كثيرا لكن يعيش كثيرا ويتأمل بعمق وجوه الناس الزاحفة بكثرة في السوق القديم.

يبدو إذن أن إنتاج المعنى ببلاغة وحكمة لا يحتاج للقراءة أحيانا. بل يحتاج للحياة.

شبيه المثقف

هذا الكائن أصبح يتكاثر سريعا في الآونة الأخيرة، وهو مثير للحكّة والإشمئزاز. تختلف مستويات ذكائه حسب قدرته على تذكر الجملة المناسبة في الوقت المناسب. والقدرة على رصّ كلمات غير مفهومة لكنها متماسكة، توحي لمن يقرأه أو يسمعه بأن "هناك شيء ما هام يُقال" لكنه لا يعرف أبدا ما الذي يُقال.

يتظاهر بالانشغال الدائم، لا يجيب على رسائله، يبقي مسافة بينه وبين من يعتبرهم (جماهير) مستعدين دائما لتلقّي الحكمة الخالدة من فمه. يُجيد السباحة في التيار السائد، كما يُجيد نقده أيضا، لكن كل هذا يدور كاستجابة لما يبدو على السطح، دائما على السطح.

لابد أن ينتقد الروايات وكاتبيها وقارئيها، ويستهزأ بمحبّي الحكايات، غير القادرين على احتمال الأفكار الثقيلة المجردة والمدارس الفكرية العتيدة التي يتوهم أنه يؤسسها، غير منتبه – المسكين - كم يتجاوزه الواقع ويسبقه هؤلاء "البسطاء"بشكل يعجز عن استيعابه أو رؤيته!

هذا الذي يسمع ويعتاد على رصّ المصطلحات والمعاني والتجارب بداخله، ثم يأخذ من لسان شبيه مثقف آخر (لسانه أو حالته على الفيسبوك !) مع ابتكار مصطلحين ينتميان لنفس المدرسة المتميزة بالبرود والادعّاء، والكثير من الثقة الزائفة والسخرية و اللامبالاة، وسحق العاديين واتهامهم بالجهل والسطحية، تكسيرا لمناعاتهم الطبيعية استعدادا لإغراقهم بأفكاره البائسة الميتة، إنها أفكار تنتقل من الفم إلى الفم دون مرور على القلب ولا الروح، وهكذا يتكاثر الكائن ويتسّع تواجده ويرتفع صوته ،وتكثر "بوستاته" ومتابعوه ومادحوه، ويزداد هو انتفاخا واستراحة على كرسيّه الوجوديّ الذي ينظر إلى العالم منه، ينظر من أعلى دون أن يحاول مرة العيش بداخله.

لم يعرف معاناة الفكرة، ولا مخاطر التجربة، تعب الوقوع في الفراغ لإنتاج المعنى، أو ألم التواء القلب استجابة لفكرة ما. لم يعرف كيف أن اختبار فكرة واحدة .. واحدة، قد يستغرق حياة بأكملها!

‫نعم، شبيه المثقف هو قارىء عظيم، مبهر، يظن أن الحياة ترتبّت في رأسه بالشكل الصحيح تماما، وأن كتبه كافية لمواجهة العالم، وليس عليه سوى أن يقوم "بتوعية" بقية الجهلة في مدينته المقفرة إلا من أمثاله .. ‬

‫عزيزي "المثقف"، إذا فقدت القدرة على الشعور بقيم هؤلاء البسطاء السُذّج في نظرك، ولم تشعر أن كل كتبك قد لا تكفي أن تُعلّمك كيف تعيش حياة متزنة تقف فيها صامدا أمام تجاذبات الأيام كجدتي الغير متعلمة، ولم توقن أن غاية كل ما قرأته وستقرأه أن تصل لحياة أخرى يعيشها صاحبها بصدق شعوره وأصالة مواقفه على قلّة علمه، فتأكّد أن كتبك هذه كلها لا تساوي شيئا، وأن معانيك مُفتقَدَة مهما بدا غير ذلك، وأن الضمير الإنساني والصدق شيء لا يتعلمه الناس من الكتب، بل بالتجربة التي تُنهِك أمثال هؤلاء "البسطاء" ويستمرون في صدّها بشجاعة لا يُجيدون وصفها.. مثلك ! فتبقى كامنة لا تنجلي إلا لمن يُدقق النظر، أو يهتم. ‬

‫المجد لذلك المثقف القلِق، الذي يلوم ويراجع نفسه دائما، يجيد التواصل مع الكون والانتباه لهوامش الحياة ووجوه العابرين وآلام الغرباء الطافحة في عيونهم، يقف مندهشا أمام الحسّ الإنساني البسيط بلا خجل من إظهار الدهشة والتعلُّم واليقين بنقص معارفه مهما كبُر وانتظم تلعثمه واستقام حديثه، وبلا خجل من إظهار الارتباك الطبيعي، بلا خجل من إظهار إنسانيته ونقصه وضعفه. ‬

‫أما هؤلاء المتضخمون بذواتهم مهما كتبوا من قيم ومعانٍ هامة عميقة .. تبقى على السطح، لا تمسّ القلب أبدا، ولا أحد يمكنه إخفاء دخيلة نفسه مهما اختبأ وراء كلمات منمقة متماسكة عقلانية، الروح تنكشف للآخرين بجلاء مخيف!