"عُلِم عُلِم وسنبلغ المسؤولين"، كانت هذه الإشارة التي تلقاها حارس المسجد الأقصى رداً على تبليغه عن مستوطن من بين المقتحِمين يؤدي الصلوات العلنية عند باب الرحمة في المسجد الأقصى المبارك، لم تخرج الشرطة الإسرائيلية المستوطن، ولم يتمكن الحارس وزملائه من فعل شيء، مرّ الحدث كأن شيئاً لم يكن، وفي الاقتحام التالي عاد أحد المستوطنين إلى تكراره.
مقدسي هو، مسلم عربي فلسطيني، أو رتّبها كيف شئت، لم يتمكن أبداً من ابتلاع ما جرى، ولا تصالَحَ مع نفسه على مواصلة الطريق وكأنّ شيئاً لم يكُن، باتت تلك الصورة تهاجمه في نومه وصحوه فتؤرّق مضجعه وتملأ فكره. ما واجبه وكيف يمكن أن يغيّر ما جرى؟ كيف يمكن ردع المستوطنين عن مزيدٍ من التطاول؟ ولماذا يتقدمون هكذا على حساب الأقصى؟ من المسؤول عن ردعِ تماديهم؟ هو الذي يفخر بأنه بات حارس الأقصى، ويدعو في صلاتِه أن تكون هذه قربَته عند الله، أيعقل أنه بات شاهد زورٍ يعجز حتى عن توثيق ما يجري ونقل صورته؟
منذ أيامٍ معدودة بادرت مجموعةٍ من حرّاس المسجد الأقصى المبارك لإعلان وقف مرافقتهم للمستوطنين في اقتحاماتهم، فما الذي دفعهم إلى ذلك؟ لا بد من عودةٍ إلى الوراء لإجابة هذا السؤال: مع بدء الشرطة الإسرائيلية بمرافقة المقتحمين الصهاينة للأقصى في عام 2003 كان حراس الأقصى ومعهم المصلون من القدس وأنحاء مختلفة من فلسطين يقفون في وجههم بالحجارة والأحذية والتكبير والصرخات والصيحات.
مع اكتمال أجزاء من الجدار وعزل أهل الضفة الغربية، وانتهاء انتفاضة الأقصى، بات مرابطو القدس والأرض المحتلة عام 1948 يواجهون الاقتحامات بالتكبير والتضييق والمشي مع المقتحمين أينما ساروا فكانت الاقتحامات تبدأ بسرعةٍ وتنتهي بسرعة، وتكرّس ذلك عام 2009 مع نشأة مصاطب العلم في الأقصى.
بحلول عام 2016 حُظرت مؤسسات الرباط ثم الحركة الإسلامية، غابت المؤسسات التي احتضنت هذا الدفاع، فبات الناشطون المقدسيون وحراس الأقصى الموظفون في الأوقاف هم سنده المتبقي، فاستحدث الاحتلال تهمة "تنظيم الأقصى" يلصقها لكل شباب القدس المهتمين بالأقصى المدافعين عنه، فغيّب القدوات منهم في غياهب سجنه كي تزول جدران الصد البشرية عن الأقصى واحدةً بعد الأخرى.
منذ هبة باب الأسباط في شهر 7-2017 تعرّض دور حرّاس الأقصى لتفريغٍ ممنهج. قبل ذلك التاريخ كان الحرّاس يرافقون المقتحمين في مجموعة من عشرة حرّاس أو أكثر، ويوثقون كل عدوانهم، وكان ما ينشر عن ذلك العدوان حافزاً أساسياً للناس لحماية الأقصى بكل السبل، وكان وجودهم يحافظ على فكرة الضغط على المستوطنين التي كان المرابطون يمارسونها. بعد الهبة أصدرت قوات الاحتلال تعليمات جديدة تُجبر الحراس على أن يرافقوا المجموعة المقتحمة بحارسين فقط، واحد يمشي مع قوة الشرطة في الأمام، وآخر في الخلف مع قوة اليسّام –القوات الخاصة للشرطة- في الخلف.
مع نهاية شهر 6-2018، وبعد إعمار المصلين لتلة الرحمة والجهة الشرقية للأقصى، صدرت تعليماتٌ جديدة تجبر الحراس على المشي وراء آخر جندي من القوات الخاصة، التي باتت تتعمد التأخر عن المقتحمين، حتى بات الفارق بين الحراس والمقتحمين يزيد عن الخمسين متراً، بما لا يسمح لهم بتوثيق ما يحصل ولا بسماعه، وبات وجودهم لا يشكل ضغطاً على المقتحمين من أي نوع.
لقد شعر حرّاس الأقصى أن دورهم أُفرغ من معناه، فبادروا للاحتجاج الجماعي عند إدارتهم المسؤولة عنهم وعن الأقصى وهي الأوقاف الإسلامية، فهم يرون أن من واجبها أن تفعل شيئاً إزاء إلغاء دورهم. خلال المراحل المختلفة تمكن الاحتلال من ضرب جدران الصد الشعبي المتتالية عن الأقصى، وهو يحاول الاستفراد الآن بما تبقى منه وهم الحراس، والمسجد الأقصى مقبل على فترة الأعياد اليهودية الأكثر خطورةً عليه هي فترة عيد العُرش، وذروتها بين 23-27 من شهر أيلول الجاري، وضرب دور الحراس جاء مقدمةً لشيءٍ يُحضّر، فتحت الرغبة الجامحة لترجمة قرار ترامب إلى واقع ملموسٍ في الأقصى يبدو أن المتطرفين والحكومة الصهيونية يحضّرون لعدوانٍ يغير الوضع القائم بشكلٍ جذري.
إن صرخة حرّاس الأقصى تنقل لنا انكشافاً خطيراً يمر به أحد أقدس مقدساتنا أمام التهديد الوجودي، وهنا نتوقف عند النقاط الآتية:
- لماذا لم تعلن الأوقاف تعرض حراسها ودورهم لهذا التفريغ والإلغاء؟ لماذا كانت تستجيب لتعليمات الشرطة، وما هو رد الفعل الذي اتخذته أمام ذلك؟ وإن كانت لا تملك شيئاً في مواجهة الاحتلال فلمَ لم تعلن للملأ؟
منذ سنوات وإدارة الأوقاف تتعامل مع المستجدات باستراتيجية الانحناء للعاصفة وتجنب المواجهة، وكانت تدعو الحركة الإسلامية صراحةً إلى ذلك، وتعتبر المواجهة غير مجدية، والسؤال الذي لا بد من أن تقف عنده إدارة الأوقاف ومن قبلها الحكومة الأردنية صاحبة القرار: هل أجداكم الانحناء؟ أم أن كل تجنبٍ للمواجهة اتخذته سلطات الاحتلال تحول إلى منصة صعودٍ ارتقى عليها الاحتلال بكلتا قدميه بانتظار الانحناءة التالية؟
- أمام مسار ضرب أطواق الحماية الشعبية من حول الأقصى، كانت هناك نقطتان مضيئتان تمكنتا من إبطاء هذا المسار، هما انتفاضة السكاكين عام 2015، وهبة باب الأسباط عام 2017 التي أجبرت الاحتلال على تفكيك بواباته بيديه. لقد أكدت تلك التجارب ما كان معروفاً مسبقاً، أن الاحتلال لا يفهم إلا لغة الردع ومعادلته، وأن المقاومة هي الجواب الوحيد المناسب لهذا التحدي، بكافة أشكالها ووسائلها الفردية والجماهيرية وحتى التنظيمية.
- إن مصدر المقاومة هي الجماهير، وإذا ما كانت الأوقاف الإسلامية تريد الحفاظ على دورها في الأقصى، وأن تؤدي أمانتها أمام التحدي الوجودي فإن الطريق الوحيد إلى ذلك هو الاحتماء بالجماهير والتمترس بموقفها، ونقل صورة ما يجري من عدوان لها أول بأول، وتشجيعها على الحضور والمبادرة إلى الرباط، وهذا يتناقض تماماً مع محاولة قيادتها وتحديد سقف موقفها.
- لقد عبّر حرّاس المسجد عن قيمة أصيلة، عن حرصهم على الأقصى في مواجهة العدوان، واختاروا أن يوصلوا رسالته لمسؤوليهم ولمجتمعهم وأمتهم، فأدوا بذلك قسطاً من أمانتهم التي يُحمّلهم إياها اسمهم، وهذا موقف يستحق التقدير والإشادة، وما نرجوه أن لا تفكر إدارة الأوقاف من زاوية حماية سلطتها وقرارها، فقد آن الأوان للإدراك بأن نهج الانحناء أمام عدوان الاحتلال بات يتحوّل من خطاٍ إلى خطيئة، فمآله معروف ولم يعد خافياً. لا بد من اتخاذ إجراء واضح من طرف الأوقاف في مواجهة تهميش الاحتلال لدورها، ولا بد من أن تدعم حراسها إذا ما خاضوا واجبهم في الدفاع عن الأقصى، لا أن تسير –لا سمح الله- في نهج قصّ أجنحتهم وتدجينهم.
- أمام هذا التحدي فلا مفرّ أمام شباب القدس وشاباتها، نسائها ورجالها وأطفالها وشيوخها، ومعهم أهلنا في الأرض المحتلة عام 1948 رغم الجراح والاستنزاف وحظر المؤسسات، لا مفرّ من الوقوف مع الأقصى وإعادة معادلة الردع الشعبي إلى نصابها بكل الوسائل الممكنة، فخلال أسبوعٍ من الزمن ستبدأ ذروة العدوان التي فيها انطلقت هبة 1996 وانتفاضة الأقصى 2000 وانتفاضة السكاكين 2015.
العدوان قادم تلوح بوادره، ويبقى السؤال...هل الردّ قادم؟