كشفت وسائل إعلام عبرية مؤخرا النقاب عن اتصالات تقوم بها أطراف إقليمية ودولية بهدف التوصل لاتفاق هدنة طويل الأمد بين حركة حماس والاحتلال، يضمن التزام الأخيرة بالسماح بإحداث تحول جذري على الواقع الاقتصادي والإنساني في قطاع غزة، مقابل تعهد حركة حماس بعدم السماح باستهداف الاحتلال انطلاقا من قطاع غزة، إلى جانب وقف مشروع تدشين الأنفاق الهجومية.
وعلى الرغم من أن بعض التسريبات قد أشارت إلى أن كلا من حماس والاحتلال تنظران حاليا في مسودات لاتفاق الهدنة المقترح، إلا أن انجاز هذا الاتفاق في النهاية يتوقف على مدى قدرة المحفزات التي تدفع الطرفين للتوصل للاتفاق على تجاوز المعيقات الموضوعية التي تحول دون ذلك.
معيقات الهدنة
من المعيقات الرئيسة التي تحول دون التوصل للهدنة إصرار محافل وازنة في دوائر الحكم الإسرائيلية على المطالبة بتجريد قطاع غزة من السلاح، حيث يعد وزير حرب الاحتلال "أفيغدور ليبرمان"، أكثر المتشبثين بهذا الشرط.
ويحذر المتشبثون بنزع سلاح المقاومة من استنساخ نموذج حزب الله في غزة في حال لم يتم الوفاء بهذا الشرط، ومن الواضح أن حركة حماس لا يمكنها القبول بمثل هذا الشرط، سيما في ظل إدراكها دور حراك العودة في تحسين قدرتها على المناورة السياسية.
إلى جانب، فأن هناك إجماع داخل الاحتلال على الربط بين اتفاق الهدنة وانهاء ملف الجنود الإسرائيليين الأسرى لدى حماس، ومع أن الحركة لا يوجد لديها اعتراض على ذلك من ناحية مبدأيه، فإن ما يقلص من حماسها لهذا الربط حقيقة أن ما يصدر عن القيادات الإسرائيلية يوحي بأن تل أبيب غير معنية بدفع ثمن مناسب مقابل إنهاء هذا الملف.
في الوقت ذاته، فإن الاعتبارات الداخلية تلعب دورا مهمة في فرملة توجه القيادة الإسرائيلية نحو اتفاق الهدنة، حيث يشير الكثير من المراقبين في دولة الاحتلال إلى أن "نتنياهو" غير معني بأن يظهر كمن يتوسل لتسويات مع منظمة "إرهابية"، في الوقت الذي يحرض العالم على محاربة "الإرهاب" فقط.
محفزات الهدنة
هناك عدة محفزات تحث الاحتلال على التوصل لاتفاق هدنة، على رأسها الحاجة لإنهاء حراك العودة، الذي فرض تحديات أمنية وسياسية، وأسهم بالمس بمكانة تل ابيب الدولية، إلى جانب أن السماح بتواصل الحراك يمكن أن يفضي إلى اندلاع مواجهة شاملة مع حماس، قد تفضي إلى توريط الاحتلال في الوحل الغزي.
فشن حرب جديدة على القطاع سيسمح لحماس بمغادرة الحكم، وهو ما سيفضي إلى سيادة حالة من الفوضى، أو ما تسميه الدوائر الأمنية الإسرائيلية "صوملة" القطاع، مما سيجبر دولة الاحتلال على إعادة احتلال القطاع، مع العلم أن هناك إجماع على ضرورة تجنب أي مسار يفضي إلى إعادة احتلال القطاع بسبب تبعاته الأمنية والاقتصادية والسياسية.
ويبدو الاحتلال معني بالإبقاء على الحكم الذي تديره حماس في غزة كعنوان سلطوي من أجل جباية ثمن من الحركة لإجبارها على ضبط الأمور في القطاع، إلى جانب أن العمليات العسكرية التي تشنها تل أبيب تهدف أيضا إلى قضم قدرات حماس العسكرية من خلال التذرع بالرد على هذا العمل أو ذاك.
في الوقت ذاته، فإن كل المؤشرات تدلل على أن الاحتلال معني بالتفرغ لمواجهة التحديات على الجبهة الشمالية، على ضوء توجه صناع القرار في تل أبيب باستغلال نافذة الفرص الحالية من أجل القضاء على الوجود الإيراني هناك؛ وهذا ما يغري بالتوصل لاتفاق هدنة مع حماس يسمح بمواجهة تبعات التصعيد في الشمال.
وتدرك دولة الاحتلال، رغبة الولايات المتحدة في التهدئة من أجل توفير بيئة تسمح بطرح صفقة القرن، التي سيتم الإعلان عنها قريبا، ناهيك عن أن استتباب الهدوء على جبهة غزة يوفر بيئة إقليمية تسمح بنجاح تحركات ترامب ضد إيران، في أعقاب انسحابه من الاتفاق النووي.
وتسهم الهدنة في تكريس الفصل بين قطاع غزة والضفة المحتلة، لأن هذا يتطابق مع المنطلقات الأيدلوجية لليمين الحاكم في تل أبيب، إلى جانب ذلك، فإن حالة انعدام اليقين التي تسود الضفة في أعقاب التقارير التي تتحدث عن تدهور حالة رئيس السلطة محمود عباس الصحية تزيد من فرص انفجار الأوضاع الأمنية في الضفة، بشكل يفرض على تل أبيب ضمان الدفع نحو تهدئة الأوضاع في القطاع.
على الرغم من أن محفزات الهدنة تبدو أقوى من معيقاتها؛ إلا أن التجربة قد دللت على أن الاحتلال بإمكانه أن يتوصل لاتفاق هدنة مع حماس، لكن احترامها له يتوقف على مدى تقديرها لدوره في خدمة مصالحها، ومما يمنح تل أبيب هامش مرونة كبيرة في التعاطي مع اتفاقات التهدئة والهدنة ووقف إطلاق النار مع حماس، حقيقة أن مصر التي تلعب الدور الرئيس في التوسط بين الجانبين، لا تبدي تصميما على إلزام تل أبيب باحترام ما تم الاتفاق عليه.