لـطالما أصيبت جدران البيوت الفلسطينية بالخلو على نفسها بلا صور عائلية حين أطلق على ابن مخيم لقب "المقطوع من شجرة" بعد أن تقطعت به السبل وأخذت منه الحياة ذوي القربى أو أخذته منهم، تلك الحالة التي تسمى بـ"الوحدة" والتي قيل ذات يوم إنها مصير كل الأرواح العظيمة، وهي التي لا تزرع شيئًا بل تجعل الأشياء أكثر نضجًا.
وكم من شخص ظل وحيدًا في النهايات المجردة من كل شيء، فعلى بعد ثمانية كيلومترات من "قلب العروبة النابض" الذي باتت شوارعه تتحدث بالفارسية وسماؤه تصرخ بالروسية، ثمة متسع للوحدة رغم ضجيج كريات الدم البيضاء في محاولاتها لمقاومة التلوث شبه التام الذي أصاب الياسمين الشامي ومكّن الغرباء من احتلال رائحته وطرد من زرعوه.
هناك تحت أطلال مخيم اليرموك الفلسطيني الدمشقي الذي يزوره الزلزال المفتعل، ترقد انشراح، ابنة قاسم الشعبي شهيد مجزرة عين الزيتون قضاء صفد، بعد مرور سبعين عامًا على المجزرة وما يزيد على السبعين لعيد ميلادها.
أم جهاد كما يكنيها جيرانها ومعارفها من أبناء اليرموك، ليس لديها جهاد الذي كانت تتمنى، وهي اليتيمة ابنة الشهيد وفاقدة الأم، وأبو جهادها (المرحوم الحاج حميد الشعبي) توفي قبل عشر سنوات، فظلت وحيدة بما يكفي من صباها وحتى الكبر حيث عملت في مهنة الخياطة لتجهيز عرائس المخيم.
المسنة الفلسطينية تلك كانت كالسمكة التي تُـخرج من الماء مع كل مرة تستطيع فيها الخروج من اليرموك بضع أيام خلال فترة الحصار، وتقول الرواية نقلا عن أحد معارف انشراح إنها رفضت الخروج من المخيم وتعرضت للضرب والإهانات من أصحاب الرايات التي تعاقبت على ظلم الأهالي، إلا أنها آثرت البقاء فيه والصمود رغم المعاناة الكبيرة وفقدان أدنى مقومات الحياة وتضييق أطراف الصراع على السكان المحاصرين.
وتضيف الرواية أن أم جهاد عاشت طيلة فترة الحصار وحيدة في بيتها قرب مسجد القدس في شارع الـ15 غرب اليرموك، ويجاورها في السكن محمد هدبة وزوجته هيفاء الحاج (أبو رهف وأم رهف) رفيقاها في كل شيء، وصولًا إلى اليوم الذي تعرض فيه المبنى الذي يقطنون إلى قصف جوي عنيف من طائرات النظام السوري وروسيا في الرابع والعشرين من نيسان الماضي تسبب بتدمير معظمه وإصابة الشعبي بكدمات وأم رهف بكسور في قدميها، ليخرج ثلاثتهم باتجاه جادات الشهيد عطا الزير جانب حديقة فلسطين تمهيدًا للانتقال إلى بلدة يلدا المجاورة هربًا من الحرب الشعواء في ظل غياب أي فرق طبية عن المخيم وخروج مشفى فلسطين التابعة للهلال الأحمر الفلسطيني عن الخدمة.
غير أن الكسور التي عانت منها أم رهف في قدميها حالت دون محاولتها النزوح مع زوجها، لتشق أم جهاد خطواتها إلى يلدا وحيدة قبل أن يدفعها الوفاء للعودة إليهما والمكوث معهما قائلة وفقا لما نقل عنها: "عشنا هالفترة وكل شي تحملناه مع بعض، ما رح اترككن .. يا بنعيش مع بعض يا بنموت مع بعض".
وفي تمام الساعة الثانية من صبيحة الخامس والعشرين من نيسان الماضي، تعرّض المبنى المكون من خمسة أدوار في جادات الشهيد عطا الزير الذي لجأ إليه الثلاثة إلى قصف بالصواريخ أدى لاستشهادهم جميعا ودماره بشكلٍ شبه كامل فوقهم، حيث ما زالت جثثهم تحت الأنقاض دون تمكن أحد من انتشالها.
كما استشهد في ذات اليوم لاجئون آخرون جراء استهداف الغارات للأقبية التي يحتمي فيها المدنيون داخل المخيم.
تُركت انشراح وعائلة هدبة، وعائلة النابلسي والحاجة ذهبية أبو راشد وعشرات من شهداء اليرموك وحيدين في موتهم خلال الحملة العسكرية الأخيرة، لا يسمع أحد بهم تحت ردم بيوتهم تأكيدا على أن "الوحدة قاتلة"!
وبات الموت والدفن تحت بيوت المخيم الوسيلة الوحيدة لإثبات هوية المكان الفلسطينية وأحقية أهله به في ظل الضجيج الذي لا يستثنيهم ولا يتيح لأخوتهم في الداخل المحتل ودول الشتات الشعور بضرورة التعرف على الحد الأدنى لقصص مآسيهم المتدرجة التي لا تختلف عن مآسي حرب غزة ومعاناة أهالي القدس والضفة ومهجري الـ48 ، بل ترتبط بها ارتباطًا وثيقًا.
اليوم لا جدران لتحمل صور انشراح الشعبي ولا صور لتحملها الجدران أصلا، فالذاكرة وحافظاتها المكنّاة بأسماء شهداء فلسطين ومدنها وقراها أصبحت الصورة التي تغطي على جثمان صاحب الصورة والذاكرة، ولعله الموت الأخير لأهله في مسلسل تتم كتابة سيناريو حلقاته الأخيرة، ليضطر أبناء اليرموك إلى تحديث ما قاله الشهيد غسان كنفاني ذات يوم في أن "الغزلان تحب أن تموت عند أهلها.. الصقور لا يهمها أين تموت" إلى حقيقة جديدة مفادها أن "الصقور أصبحت تحب أن تموت عند أهلها، أما الغزلان فتفضل الموت خارج الحدود!".