لا أعرف إن كان متوقعاً أن تتخذ الفصائل اليسارية في منظمة التحرير الفلسطينية موقفها المؤيد للنظام السوري، هذه الفصائل التي لطالما حكت لشبيبتها وكوادرها عن الثورات وحريات الشعوب وحقها في تقرير مصيرها وأنه ما نناضل من أجله كفلسطينيين وأننا كيسار في الطليعة من كل ذلك والخ.
لا أعرف إن كان ذلك متوقعاً لأمرين: أولهما أن الأحزاب هذه، وتحديداً «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» كونها الأكبر من بينها والأكثر تأثيراً، تتخذ موقفاً متوافقاً تماماً مع مواقف معظم الأحزاب الشيوعية في هذا العالم، أو لأحدّد أكثر الأحزاب الرسمية التي لا تزال تسبّح بحمد ستالين، أو لأقُل الأحزاب المتأثرة بـ والتابعة لـ التجربة السوفياتية (الروسية والأوروبية-شرقية) بعيداً من كثير من يسار أوروبي عريق، إيطاليا وفرنسا مثلاً.
والأمر الثاني، وهو ما قد يأتي بنتيجة تناقض سابقتها، فهو أن لقيادات هذه الأحزاب وكوادرها أهل يموتون قصفاً وذبحاً على أيدي النظام السوري، عدا عن حصار مخيماتها الممتد لأشهر والاعتقال والتعذيب وغيره مما يلقاه أساساً السوري ابن البلد، فتنحاز هذه الفصائل لأهلها وناسها.
قد يكون التساؤل عن لأي من الكفّتين ستميل وتنحاز هذه الفصائل مشروعاً ومبرّراً خلال السنة الأولى من الثورة، أو قبل حوالي ستة أشهر من الآن، إلى أن بدأت تظهر عوارض التأييد أواسط السنة الماضية عبر شبيبة هذه الأحزاب على مواقع التواصل الاجتماعي، ما يوحي بأن موقفاً محدداً بدأت تتخذه هذه التنظيمات في أطرها الداخلية من دون أن تخرق حالة الحذر والارتقاب التي تتميّز بها، ثم عبر مقالات تروّج لرواية التلفزيونين الرسمي السوري والدنيا في طرح الأحداث وأخرى تتبنى موقف النظام السوري من هذه الأحداث، مقالات كفاحية متخمة بالعنفوان الثوري كالتي ينشرها موقع «الشعبية» على الإنترنت مثلاً. ثم، وفي الأشهر الأخيرة، من خلال تصريحات واضحة ومباشرة تصل حد الوقاحة، مكتوبة ومسجّلة، لقيادات من هذه التنظيمات وتحديداً «تاج اليسار».
لكن المسألة مع فصائل اليسار الفلسطيني ليست كغيرها، لا نتكلّم هنا عن مواقف تكون أيديولوجية تبرّر القتل أو إنسانية فترفضه، بل عن هوية المقتول، هوية القاتل، وعن التاريخ والحاضر المدمّى بينهما.
نتكلّم عن المخيمات يا رفاق.
انحازت إذن هذه الفصائل أولاً لتراثها السوفياتي، ما يستحضر في الذاكرة تلك المواقف المؤيّدة لميلوسوفيتش مثلاً في جرائمه، وقبله ستالين الذي قتل الملايين ليبني اشتراكيته أو أي من الأنظمة الشيوعية التي بُنيت على القمع والقتل، الآن عرفت أن ذلك ما كان صدفة سيئة الحظ بل منهجاً تلقائياً.
إضافة لتراثها السوفياتي، انحازت للأصولية الشيوعية التي يحز على نفسها -فلا تتقبّل- أن تكون محض متفرّجة على ثورة تنطلق عفوية شعبية دون حزب ثوري -يكون حتماً الحزب الشيوعي- ولا نظرية ثورية -تكون حتماً الماركسية اللينينية- ولا قائد ثوري -يكون حتماً الأمين العام المناضل الخالد أدام (ماركس) ظلّه الشريف.
ثم انحازت أخيراً -وليس آخراً بالمرة- لمواقف الأحزاب الشيوعية السورية والممثلة شكلياً في «الجبهة التقدمية» التي يقودها حزب البعث العربي (الاشتراكي بكل الأحوال). شريكة النظام في جرائمه سياسياً وإعلامياً وطبعاً فلسفياً.
أنا ابن هذه المخيمات، وكنت ابناً للفصيل اليساري الرئيسي. اليوم أعرف أكثر من أي وقت سابق أن «الشعبية» انحازت لكل ذلك. لكني أعرف أكثر أنها انحازت، فوق ذلك، لنظام يقتل، كما السوريين، الفلسطينيين في المخيمات ويقصفهم ويقنصهم ويحاصرهم ويخطف أبناءهم وبناتهم ويعدمهم تحت التعذيب. قد يجد أي يسار في هذا العالم أسبابه في تأييد النظام القاتل، قد يرتكز على سلسلة طويلة من الأنظمة «الاشتراكية» الصديقة والقاتلة، لكن المسألة مع فصائل اليسار الفلسطيني ليست كغيرها، لا نتكلّم هنا عن مواقف تكون أيديولوجية تبرّر القتل أو إنسانية فترفضه، بل عن هوية المقتول، هوية القاتل، وعن التاريخ والحاضر المدمّى بينهما.... نتكلّم عن المخيمات يا رفاق
سليم البيك | كاتب وصحافي فلسطيني