شبكة قدس الإخبارية

عبد القادر الحسيني.. الشهادة والجنازة ونعايا الأوفياء

هنادي قواسمي

القدس المحتلة - قدس الإخبارية: "دعهم يحتلون القدس وحيفا ويافا، فإنا سنسترجعها حالا"، و"لماذا كل هذا الاهتمام بالقدس يا عبد القادر؟ إنها لا تستحقه".. بمثل هذا الاستخفاف والسخرية رد ممثلو الجامعة العربية وجيش الإنقاذ في دمشق على طلب قائد جيش الجهاد المقدس عبد القادر الحسيني إمداده بالسلاح لمواصلة القتال في القدس والدفاع عنها في معارك 1948.

أغضب هذا الشرط العربي المتخاذل عبد القادر، حتى كتب رسالته المشهورة للجامعة العربية بالقول "إني أحمّلكم المسؤولية بعد أن تركتم جنودي في أوج انتصاراتهم بلا عونٍ أو سلاح".

وبينما بقيت الأسلحة التي طلبها حبيسة مخازن اللجنة العسكرية لجيش الإنقاذ، ذهب الحسيني إلى المعركة غير ملتفت لحسابات النصر أو الهزيمة، مخطوفا بمصير القدس لا مصيره هو. وقال لرفاقه وهو عائد من دمشق إلى القدس "أما أنا فإني ذاهب إلى القسطل لأموت هناك، قبل أن أرى ثمرة التقصير والتواطؤ، وسأعود إلى القسطل وسأسترجعها من اليهود مهما كلف الثمن، وسأموت هناك..".

أقدس ختام

في 6 أبريل/نيسان، وصل عبد القادر إلى مدينة القدس وانضم إلى جنوده لاسترداد القسطل الواقعة غربي المدينة بعدما احتلتها قوات البلماخ الصهيونية، لكنه استشهد على أرضها يوم الثامن من الشهر نفسه عن عمرٍ يناهز 36 عاما (وفي بعض المصادر 40 عاما). وفي اليوم التالي نشرت صحيفة "فلسطين" في صفحتها الرئيسية خبر استشهاده تحت عنوان "أقدس ختام لأنصع حياة باستشهاد عبد القادر الحسيني قائد الجهاد العام".

يقول فيصل دراج في مقال بعنوان "عبد القادر الحسيني المثقف المختلف" نشرته مجلة "أوراق فلسطينية" صيف 2013 "لم تر القدس جنازة تماثل جنازة الشهيد عبد القادر ضخامة وجلالا.. مشى الناس في الجنازة احتراما ووفاء واعترافا بأن الشهيد يمثل الوطن والشعب..".

وفي كتابه "فلسطين الأم وابنها البار عبد القادر الحسيني" يقول عيسى خليل محسن "لم تشهد مدينة القدس في تاريخها الحافل يوما كيوم جنازة خير الأبطال وعنوان التفاني ورمز التضحية، ولم يعم فلسطين الحزن كما عمها في ذلك اليوم الأليم".

انطلقت الجنازة الموصوفة للحسيني الساعة العاشرة والنصف صباحا يوم الجمعة 9 أبريل/نيسان 1948 من منزل شقيقه فريد الحسيني الكائن بشارع الزهراء وسط القدس، حيث يشغل المنزل اليوم المركز الثقافي التركي التابع للقنصلية التركية في القدس، وصولا إلى المسجد الأقصى.

حيا المناضلون رفيقهم الفقيد بإطلاق العيارات النارية في الهواء، ومن ثم انطلقت الجنازة تتقدمها الأكاليل وطلاب الكليات والمدارس الوطنية وفرقة موسيقى دار الأيتام الإسلامية وفريق كبير من المناضلين الذين وضعوا على أسلحتهم شارة الحداد، ومن ثم نعش الشهيد، وراءه فريق آخر من المناضلين، ثم عائلة الشهيد، ويتبعهم الوجهاء وأعيان فلسطين من شخصيات سياسية ودينية وغيرها.

نعي وتأبين

وقد دخلت الجنازة إلى المسجد الأقصى من باب الملك فيصل، وأدخل نعش الفقيد إلى قبة الصخرة المشرفة، حيث تليت عليه آيات من القرآن الكريم، ومن ثم نقل إلى المصلى القبلي، حيث صليت عليه صلاة الجنازة بعد صلاة الجمعة. وشملت شعائر الجنازة كذلك نعي المؤذنين له على مختلف مآذن القدس، ودقت أجراس الكنائس، كما أطلقت 11 قنبلة من المدافع تحية للشهيد.

أما كلمات التأبين فقد اشتملت على كلمة للهيئة العربية العليا، والمجلس الإسلامي الأعلى، واللجنة القومية بالقدس، والقيادة العامة لجيش الجهاد المقدس، وكلمات ممثلين عن الإخوان المسلمين، والاتحاد النسائي، وممثلين عن الطوائف المسيحية.

ومن كلمة المجلس الإسلامي الأعلى نقتبس "خسرتك الأمة وهي في أشد الحاجة إلى إخلاصك ومغامراتك وتفانيك، واستشهدت بعد أن حملت نور النصر في أعظم المعارك، وسيتحدث التاريخ عن بطولتك وأعمالك الخالدة.. لقد مضيت في ساعة الوغى والجهاد في ساحة العز والكرامة مطمئن النفس إلى أن قمت بواجبك وأرخصت الغالي في سبيل الوطن واستعادة كرامته المسلوبة وحريته المفقودة".

ورغم عدم وجود اسمه في بعض أرشيفات الصحف الفلسطينية، فإن الكلمة الأبرز -حسب الروايات الشفوية- كانت لرفيق دربه في الجهاد المناضل إبراهيم أبو دية. تذكر نهيل عويضة في كتابها "معارك القدس الجديدة ومداخلها عام النكبة وسيرة البطل إبراهيم أبو دية"، أن كلمته كانت من أصدق الكلمات، وأنه ارتجلها ارتجالا، وكانت أكثرها تأثيرا، وأن أبو دية ترك المستشفى رغم إصابته البالغة بسبع رصاصات وأبى استكمال العلاج الطبي إلا بعد توديع رفيقه والمشاركة في تشييعه.

رحاب الأقصى

شارك في جنازة عبد القادر الحسيني عشرات الآلاف ممن قدموا من مختلف أنحاء فلسطين، ولم يقتصروا على أبناء القدس حصرا، إذ تذكر الكتب والصحف أن الوفود قدمت من جنين وطولكرم وقلقيلية والخليل ونابلس وغيرها من مدن فلسطين.

وتختلف الروايات حول العدد المقدر للمشاركين في الجنازة، لكن صحيفة "فلسطين" في عددها الصادر يوم 10 أبريل/نيسان 1948، قالت إن 50 ألف مشيع شاركوا في الجنازة.

دفن الشهيد غربي المسجد الأقصى المبارك، إلى جانب والده موسى كاظم الحسيني، ومن ثم لاحقا دفن إلى جانبهما فيصل الحسيني نجل الشهيد عبد القادر بعد وفاته في الكويت في يونيو/حزيران من العام 2000.

أما من لم يحضر الجنازة في القدس، فقد أقيمت صلاة الغائب على روح الشهيد ونعاه المؤذنون على مآذن الجوامع، وخرجت لأجله الجنازات الرمزية في أغلب مدن فلسطين. منها مثلا المسجد الكبير في المجدل، والمسجد الكبير في اللد الذي خرجت منه بعد انتهاء صلاة الجمعة جنازة رمزية صامتة باتجاه مقبرة المدينة حيث ألقيت الكلمات والتحيات للشهيد الفقيد. وأقيمت حفلة تأبين للشهيد في المسجد العمري في غزة. كما رفعت الأعلام السوداء على شرفات المنازل، ودقت أجراس الكنائس في كثير من المدن الفلسطينية، وأغلقت المحلات التجارية أبوابها.

نعي القاصي والداني

خلّف فقدان الشهيد عبد القاد الحسيني حزنا مفجعا في قلوب الناس. وكان الحسيني القائد الوطني الأكثر شعبية في ذلك الوقت، لم تمنعه امتيازاته الثقافية ولا ولادته الاجتماعية لعائلة من الطبقات العليا أن يلبس لباس العسكر، ويعيش بين الناس واحدا منهم معبرا عن همومهم، بعيدا عن المكاتب والمناصب وغرف القيادة، وقريبا من ساحات النضال والتضحية، بل متقدما فيها.

وبهذا كان فقدانه في معركة القسطل شهيدا خسارة كبيرة للشعب الفلسطيني في أوج حاجته إلى قيادة وطنية صادقة، مترفعة عن المناصب والاستنفاع منها، وذات كفاءة عسكرية تناسب تحديات ذلك الزمن.

ووقوفا على مظاهر هذا الفقدان العظيم، نرصد هنا نعي المجتمع الفلسطيني ومناضليه للشهيد عبد القادر، وذلك من خلال استقراء أرشيفات الصحف الفلسطينية، وصفحات الكتب التي وثقت لمعارك النكبة.

نطالع في أعداد صحيفة "فلسطين" بعد يوم 8 أبريل/نيسان 1948 رسائل عدة من كل حدب وصوب للتعزية في الشهيد الفقيد، بعيدا عن تعازي أصحاب المناصب الذين خذلوا الحسيني في إمداده بالسلاح.

ذمة الخلود

نجد التعازي من المنظمات الشبابية والنسائية والمناضلين في مختلف أنحاء فلسطين، ومنها التعزية من الهيئة العربية العليا، وحامية مدينة يافا، واللجنة القومية في يافا، واللجنة القومية في الرملة، وجماعة الإخوان المسلمين في يافا، ومنظمة الشباب العربي في فلسطين، ومن مدارس ومجالس محلية في قرى ومدن متفرقة.

من تلك التعازي ما ورد تحت عنوان "في ذمة الخلود"، ممهورة بتوقيع "أبو ماضي قائد منطقة غزة" يقول فيها "بقلب حزين تلقيت خبر استشهادك، وأنا فخور ببطولتك النادرة.. لقد كنت حرا من أفذاذ أحرارنا فخسرناك، لكن قصة استشهادك ستحيي في النفوس أسمى آيات التضحية في سبيل المثل الأعلى، ففي سبيل الله والوطن وفي ذمة الخلود روحك الطاهرة".

ووصفت منظمة الشباب العرب في رام الله الحسيني بأنه زيّن جبين القضية الفلسطينية بإكليل من الغار. وفي رسالة تعزية ثالثة باسم إبراهيم جاد الله، وصف الشهيد بأنه "سيد المجاهدين... مثله كمثل جعفر الطيار".

ومنها كلمات كتبها عبد الرحمن أبو درة، بدأها ببيت شعر للشاعر العباسي أبي تمام "وما مات حتى مات مضرب سيفه *** من الضرب واعتلتْ عليه القنا السمر"، قال فيها "فاشهدي يا قسطل، واشهد يا تاريخ أننا لم نبخل ولم نتأخر عن كل ما تطلبه الحرية، فمع السلامة يا أبا موسى، وارتع بين حدائق الخلود، بعد أن أديت رسالتك سطرا سطرا، وسيظل هذا المثل الأكبر الذي قدمته عن البسالة العربية فخر الأجيال القادمة".

بطل صنديد

كما رثاه زميله في الجامعة الأميركية في القاهرة أكرم الخالدي مخاطبا القدس والقسطل "اذكري فتاك الشهيد، وبطلك الصنديد العنيد عبد القادر الحسيني، ثم اسكبي دمعة لتقومي من بعد إلى الميدان مشرقة باسمة، فشهيدك لا يحب الدموع، وهو يكره القعود والخنوع".

وفي صحيفة "لواء الاستقلال" العراقية، كتب أحد من عاصر الشهيد في العراق ينعاه ويرثيه واصفا إياه بأنه "لم يعرف الجزع في حياته"، و"لم يتطرق إلى قلبه الرعب، ولم تعرف نفسه الاستخذاء، فكان في طليعة المقاتلين يحمل سلاحه كغيره من الجنود العرب وهو قائدهم".

وقد وصلت أصداء التعازي إلى أميركا، حيث تلقى أحد أقاربه وممثل الهيئة العربية العليا جمال الحسيني التعازي فيه هناك. وأوردت صحيفة "فلسطين" عن جمال قوله "إن التاريخ سيسجل اسمه بين أمجاد أبطاله، وإذا كانت خسارتنا بفقده عظيمة فقد ضرب من نفسه مثلا عاليا سيحتذيه الكثيرون".

رثاء بالشعر

في صحيفة "فلسطين" بتاريخ 13 أبريل/نيسان 1948، وفي صفحتها الثالثة، نشر الشاعر صالح الريماوي نصا قصيرا بعنوان "حزنت بعده البنادق"، أسف فيه لعدم مشاركته في جنازة الشهيد لكونه جريحا من إحدى المعارك، ومقيما في المستشفى الفرنسي بالقدس، ومن ثم أتبع ذلك بأبيات من الشعر يقول في بعضها:

بطل خرّ في الجهاد شهيدا *** فالربى أوشكت لذا أن تميدا قد هوى النسر وهو في ذروة المجد *** وقد جاوز السماء صعودا لا تلوموا حزنا عميقا ودمعا *** وفؤادا ممزقا مكمودا فمصاب البلاد فيه شديد *** ومصابي قد كان فيه شديدا

وفي نص شعري آخر نشرته الصحيفة ذاتها، يقول عبد القادر يوسف من طولكرم:

مصاب ليس يعدله مصاب *** ورزء جل طاش له الصواب أحقا قد قضى البطل المفدى *** أحقا قد خبا ذاك الشهاب أحقا -إيه يا دنيا- توارى *** أبو موسى وغيّبه التراب

ورثى الفن الشعبي الفلسطيني فقيد فلسطين عبد القادر الحسيني بالأبيات التالية: "فلسطين سعدك أفلْ، يومْ أبو موسى انْقتل لكنهْ قرْب الأجلْ، حكم رب العالمين رحمهْ من الله عليكْ، يا عبد القادر موسى بيكْ نادى للوطنْ لبيك، نحميك من الغدارينْ".

ونرى من ذلك الرصد السريع أن كلمات الرثاء والتعازي ركزت على أمرين، التعبير عن مدى الحزن والفقدان لخسارة الشهيد الحسيني، ومن ثم نبهت إلى ضرورة الاستمرار في نهجه وطريقه.

المصدر: الجزيرة نت