إن كنت تبحث عن تجربة ثورية ملهمة، وخط كفاحي شديد المبدئية، وتيار فلسطيني يرى الصراع مع العدو تناقضاً رئيسياً وما عداه تناقضات ثانوية لا يؤبه لها، وخط بنى نظريته الثورية من الجماهير، تيار وطني طبع أبناءه على نكران ذواتهم وإفناء أنفسهم لأجل ما حملوه من أفكار، غير مبالٍ بمصالحه الشخصية، أبناءه على درجة عالية من الشجاعة تجعلهم قادرين على تغيير ايدولوجيتهم تنظيراً وممارسة، تيار يتمتع باستقلالية في تقديره للمواقف تصل درجة مخالفته قيادة تنظيمه، التيار الذي قام بكُبريات العمليات العسكرية في تاريخ الثورة الفلسطينية دون أن تنسب إليه إلّا بعد سنوات طوال.. إن كنت تبحث عمّن جمع هذا كلّه؛ فستجد ضالّتك في "الكتيبة الطلّابية".
يقف من سيكتب عن تجربة تيار الكتيبة الطلابية حائراً في وضع توطئة لحديثه عنها لما فيها من غنى، فهذا التيار يبدو أنه فعل كل شيء، وان تشابهاً بين أحداث الماضي والحاضر مدعاةٌ لإعادة التذكير بشيء من تاريخ هذه الحالة الثورية النظيفة والنضوج الفكري الفريد. فإن كانت فكرة عودة المهجرين إلى ديارهم التي ترفع << مسيرات العودة الكبرى >> في غزة لواءها اليوم ظاهرةً مبهرة، فإن هذا التيار عرفها قبل ثلاثين عاماً، فكانت حاضرةً في منهجه وسبباً في استشهاد ثلاثة من رموزه (أبو حسن قاسم وحمدي التميمي ومروان كيالي) على يد الموساد أثناء تحضيرهم لإطلاق سفينة العودة عام 1988 من ليماسول في قبرص باتجاه حيفا وهي تحمل على متنها عشرات من الفلسطينيين يسعون لتأكيد حقهم في العودة إلى أراضيهم التي هجّروا منها قسراً.
التيار الذي لم تغب العودة عن ممارساته، لم يغب عن أبناءه أيضاً سعيهم للوحدة حتى بعد اندثاره التنظيمي، فبين يدي استشهاد الأسير ميسرة أبو حمدية تجلّت الوحدة بأبهى صورها، الأسير- الذي كان مثالا للبركة الممتدة وشيئا من بقية الروح لهذا التيار في الانتفاضة الثانية- ساهم في إطلاق كتائب الأقصى مع رفيقيه مروان زلوم وجهاد العمارين، وبعد استشهاده بين أسرى حماس نعته كتائب القسام وذكرت في بيان نعيها دوره في تدريب خلايا القسام الاولى ودعمه لخلاياها في انتفاضة الأقصى.
هذا التيار في فتح الذي حاول دوْماً أن يصحح بوصلتها ويقوّم اعوجاجها وظلّ رافضاً لتجاوزاتها، التيار الذي نعته (أبو إياد) أنه "ضمير فتح" غدا اليوم غائباً عنها، فقادته قبل كوادره قضوا شهداء, أبو حسن قاسم وحمدي التميمي وسعد جرادات ومروان كيالي وعلي أبو طوق وسمير الشيخ وأبو خالد جورج وعشرات غيرهم، وبعض من قيادته أنشأ تنظيمات مقاومة مستقلة والبعض غادر التيار إلى حركات المقاومة اللبنانية كما حصل مع عماد مغنية.
وإن كان لهذه السطور من إضافة ترجى فهي في إعادة استحضار هذا الإرث النضالي، وإكرام شهداءه والدعوة للسير على نهجهم والوفاء لمبادئهم التي قضوا لأجلها.
نظرة في البدايات
خرج هذا التيار من رحم الحركة الطلابية الفلسطينية واللبنانية في الجامعات والثانويات و تَسمّى باسم "السرية الطلابية" فشكّل هؤلاء الطلاب بعَزَماتهم الفردية وجهودهم الذاتية نواة لبداية تغيير جماعي في الحركة الوطنية. يرجع الظهور الأول لهذا التيار إلى عام 1973 حين قام طلاب جامعة بيروت العربية بصد هجوم للجيش اللبناني على الجامعة وإجباره على وقف الهجوم، بعد هذا الحادث بدأت السرية الطلابية باستقبال الوافدين إليها من الطلبة والمثقفين -الفلسطينيين وغير الفلسطينيين- المنضمين لفتح لما كانت تمثله (بين عامي 65-73) من حركة طليعية ثورية ملتزمة بالمبادئ والمنطلقات التي حددتها الثورة الفلسطينية، وغلب على المنتسبين الطابع اليساري الماوي، لتبنّيهم أفكار ماو تسي تونغ "الحرب الشعبية" و"خط الجماهير" الذي كان يدعو المثقفين والمناضلين إلى استلهام النظريات الثورية من الجماهير الشعبية بعد الاستماع إليها واحترامها وفهم طبيعتها. لم يعرف التيار منذ بدايته شكلاً تنظيمياً محدداً وفضّل البقاء في فتح على الخروج منها حتى مع اختلافه معها. أثناء الحرب الأهلية اللبنانية سيُصار إلى تغيير اسم السرية إلى "الكتيبة الطلابية" واعتمادها جزءاً من قوات العاصفة التابعة لفتح.
أسلمة التيار
"لقد ساعدني خط الجماهير في اكتشاف الإسلام" بهذه الكلمات عبر منير شفيق، أبرز منظري التيار، عن بدايات تحوله للإسلام –اعتنق منير شفيق الإسلام هو وثلة من أبناء الكتيبة المسيحيين-، التحول جاء ضمن ظروف عالمية كثيرة، أبرزها: تداعيات الثورة الإسلامية في إيران نهاية السبعينات ووجود مناخ عام إسلامي وعربي مرحّب بها، وتزامن ذلك مع التدخل العسكري السوفييتي في أفغانستان الذي اعتبر وجهاً من وجوه المشاريع الاستعمارية، وانتهاءً بسقوط تجربة الثورة الثقافية في الصين. لم يكن هذا التحول براغماتياً بقصد كسب ودّ الجماهير المسلمة ولكنه جاء تتويجاً لمرحلة بدأها منير شفيق ورفاقه أبو حسن وحمدي من نقد للماركسية انتهت بهم وقوفاً على أرض الإسلام، فالشهيدان ألّفا كتيّباً يجيبان فيه عن "أسئلة حول الإسلام والماركسية من وراء القضبان" يعلنان فيه تبنّيهما للإسلام ايدولوجيا نضالية قادمة. وان لم يشمل هذا التحول كل أبناء التيار إلا أنه ظل سمة من أبرز سماته، وبخاصة بعد تشكيل <<سرايا الجهاد الإسلامي>> داخل الأرض المحتلة وبهذا يكون التيار قد أنزل هذا التحول في الايدولوجيا واقعاً على الأرض.
أبرز العمليّات العسكرية
قام أبناء هذا التيار بكُبريات العمليات العسكرية في تاريخ الثورة الفلسطينية. إن كان ذلك أثناء الوجود الفلسطيني في لبنان أو من خلال العمل داخل الأرض المحتلة، واللافت أن العديد من هذه العمليات التي قام بها أبناء التيار قطف ثمارها غيرهم دون أن يفت ذلك في عزمهم أو يوقف تضحياتهم لأنهم آمنوا بوظيفتهم جنودا مجهولين لا يبحثون عن مكسب مادي أو شهرة أو نفوذ. ومن العمليات التي قامت بها (الكتيبة الطلابية) –على سبيل المثال لا الحصر- : أسر ثمانية جنود إسرائيليين ومبادلتهم بالمئات من الأسرى الفلسطينيين، والتحصين المستمر لقلعة الشقيف بقيادة الشهيد علي أبو طوق قبل أن تدور فيها معركة أسطورية قاتل فيها الفدائيون حتى الاستشهاد دون أن يستسلم منهم أحد، وعملية الدبّويا التي نتج عنها مقتل 13 جندياً بينهم القائد العسكري لمنطقة الخليل، ومعارك مارون الراس ضد الجيش الإسرائيلي وعملائه في لبنان، ومعركة بنت جبيل أثناء العدوان الإسرائيلي عام 78 ، ومن الجدير ذكره أن دلال المغربي التي "أقامت الجمهورية الفلسطينية" كانت ضمن تنظيم الثانويات في الكتيبة الطلابية.
أما عمليات (سرايا الجهاد الإسلامي) فتركّزت داخل الأرض المحتلة وكان أهمها : عملية حائط البراق عام 86، ومساعدة خلية الشجاعية التي كان يشرف عليها الشهيد فتحي الشقاقي، إلا أن أبرز العمليات كانت محاولة تفجير مقر حكومة الاحتلال الإسرائيلي عبر سيارة مفخخة تقودها عطاف عليان ولم يكتب لهذه العملية النجاح بسبب اكتشافها قبل ساعات فقط من التنفيذ. تفاصيل هذه العمليات وغيرها وثّقها قادة الكتيبة، معين الطاهر في كتابه <<تبغ وزيتون>> و شفيق الغبرا في <<حياة غير آمنة>>.
ماذا لو كان التيار موجوداً اليوم؟
لو كان التيار موجوداً، ما كان ليرضى عن الدخول في مشاريع التسوية فضلاً عن الاستمرار فيها وهو الرافض للبرنامج المرحلي لكونه انحرافاً عن المبادئ والمنطلقات! لو كان التيار موجوداً، لاشترك في المقاومة وقادها أنّى أتيحت له الفرصة ولنا في أبو حمدية ورفاقه مثال وعبرة. لو كان التيار موجوداً، لرفض أن تفرض العقوبات على الغزيّين ولأعلن رفضه للانقسام وسعى لإنهائه فهو الرافض لكل الانشقاقات في مسيرة الحركة الوطنية. لو كان التيار موجوداً، لدعم مسيرات العودة ووسّع رقعتها ولنا في سفينة العودة مثال يحتذى. لو كان التيار موجودا، لرفض سياسة حكم الفرد الواحد والمجموعة الواحدة. لو كان التيار موجودا، ربما كان التحرير أوشك والعودة أقرب.