رام الله - قدس الإخبارية: من داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي... بقلم الأسيرين كمال أبو حنيش ونادر صدقة
*نادر: إنّ المنطق الصاعق الذي كمنّ بذاكرتي خلف هذه المقولة التي ذكرتها على مسمعي حين طلب مني الرفاق المساهمة الشبابية لكلا منا بموضوع عن تجربتنا مع أحد الشهداء الذين عايشناهم خلال تجربتنا الكفاحية كجزء من نشاط لتكريمهم وتخليد ذكراهم في ذكرى يوم الشهيد الجبهاوي هذا المنطق هو ما هزني ودفعني إلى الاستعانة بحبل أفكارنا معاً في محاولة لتسلّق هذا الحاجز الشاهق والحائل دون قدرتي على توثيق الذاكرة وإعادة تلك الهامات التي نبتت واحتلت جذورها كل شعاب الجمجمة من حيث لم تذهب، فكيف السبيل… كيف السبيل يا رفيق العمر وهذا المدى المفتوح للأعداء والنسيان يهزم قدرتي على إحاطته بالبوح من دون أن تُزاح كل فكرة أو ومضة أو صورة أو لحظة تأمل أختها على مكانها في الذاكرة كيف السبيل ولا طالما اشحت بوجهي عن مشهد الفقدان الذي يسكنني مخافة الضياع في اتساع الرؤية.
كميل: لا تحتاج المفردات بجمالياتها الصاخبة في وجه مرور إذا تعلّقت بالوجدان وهو وحده من يحفز خصب الذاكرة الحية لكل جماليات الخطوط، وكما تعلم يا رفيقي فإن ما يسكننا ويستوطن كل خلية فينا هو الحب والانتماء العميق لكل ما هو انساني في هذا الوجود بتاريخه الحافل بمواقف بالبطولات والتضحيات… لأولئك الذين سمعنا وقرأنا عنهم، ولم نعرفهم فما بالك بالذين عرفناهم وعشنا معهم وعايشنا ذلك النور المتوهج من أعماقهم والذي لا يراه إلاّ من ينتمي لتلك الطريق في الرؤيا والإحساس والثقافة الإنسانية الكامنة، لقد سيطرت عليّ السنوات الأخيرة فكرتيّ الحضور والغياب كنقيدين يتناوبان الصراع في الذاكرة إذ يتحول الحضور إلى غياب ويتحول الغياب إلى حضور مُكثف، وفي حالة الشهداء فإن حضورهم مُقدسّ له حالته الخاصة وهو في أغلب الأحيان ما يقف وراء الأحجام أو الامتناع الطوعي عن الكتابة وفي أحيان أخرى فإن السبب هو غياب القدرة على هذا الفعل أو في الأحرى الخوف من خذلان اللغة.
وفي كل الأحوال وبعد مرور تلك السنوات فقد آن الأوان كي نتكلم ونكتب بتلقائية وسلاسة تشبه سياق حياة أحبتنا الخليلين فينا، الأمر الذي لم يعد واجباً علينا أو حقاً لهم إنما حاجة مُلّحة من دواعي القلب والوجدان اللذان باتا يصدحان بتلك الحضور.
نادر: نعم يا كميل كان حضورهم بتلك الهامات التي يحفزك على النهوض مُجرد رؤيتها والحدقات التي تٌبطل الامل أينما تلتفت والقلوب الملأى بالحياة التي لن تعيشها والأفكار التي تهمس بالفرح وتناضل في سبيله يملأ الدنيا عبقاً منعشاً ويشغل كل من عرفهم وعايشهم وشاركهم مشوارهم بالنضال والثورة وصار غيابهم بعد كل ما تركوه من محطات في الصدر والرأس أعلى حالات الحضور، فأنا أشعر أن هذا الغياب ورغم كل هذا التسلسل من الأيام والأحداث والآلام والآمال؛ فالذي يفصلني عن آخر محطة جمعتنا لم يغير شيء سوى أنه جعل حضورهم أكثر طهراً، وربما هذا الطهر تحديداً هو ما يدفعني إلى الآن لاحتجاز كل هذا المخزون من سيرة رفاقنا الشهداء خلف جدران الذاكرة لعلني أحميهم من كل ما دار ويدور خلف هذه الجدران أو لعله الخوف من خُذلان اللغة كما جاء في تعبيرك أو ربما في التقصير بحيث يخفي الغصن الحاضر في الذهن الغابة التي خلفها أو عقد ذلك في عود على بدأ في اتساع الرؤية وديق العبارة، إنما ورغم كل ما قيل في عوائق البدء لابد من أن نبدأ ولو قليلاً في تحميل الورق بعض عبق الذكريات.
كميل: تِلك العبارة العميقة لاتساع الرؤية وضيق العبارة هي تشكيل فكري يصلح رمزاً لأي شيء وطالما نتحدث عن عالم الشهداء الذين يجسدون قمه التجريد في إطفاء المعنى لهذا الوجود يصبح للشهداء كلهم ذات الوجه وذات الدلالة في الحضور، إنهم ينتمون إلى عالم المعنى بما يمثلونه من حالة رمزية تحتفي بما يجب أن يكون عليه الوجود.
دعنا إذاً نبدأ بحالة لها ذات الوقع الجمالي لكلينا لنبدأ مع يامن فرج ، يامن الاستثنائي باختصاره لذلك المعنى بجماليته الصافية لا أحب الفعل كان لأنه أولاً لا يليق بحالة حضوره الطاغي، ولأنه ثانياً لا يزال يتشّكل وينمو كفكرة ومعنى يعرف كيف يتسلل إليك في كل موقف دال، ويعرف كيف يفرض نفسه كمبدأ صادق يمنعك من الانزلاق في الوحل.
وإذا صح لي أن اختصره في كلمة واحدة اسميه السكينة، فهذه الكلمة التي ينشدها ويقاتل في سبيلها كل انسان على وجه هذه الأرض وهي كلمة لو تدري تمثل بالنسبة إليّ عالم المعنى ذلك العالم الذي يحتفي به كل مناضل جسور ينتمي لهلال هذا العالم.
نادر : يا من هواه أعزه وأذلني أو يامن هواه أعزه وأذلي الأول بين المتساوين اختصرته انت بالسكينة وأنا أرى فيه الكمال، لذلك فإنه صوابيه تعبيرك في رفض حشره مع كان في ذات المزدوجين تكمن بالنسبة لي في أن يامن لا هو ماضي ولا هو ناقص بل هو الكمال بكل حضوره وكماله كما أراه وأعرفه يٌكمن في مشواره الكفاحي أو لنقل في حياته فليس من الممكن أن نفصل حياة يامن عن مشواره في النضال والكفاح فمن يعرف سيرة حياة هذا الرائع بكل تفاصيله فهو الطافح بالتفاصيل يدرك أنه لو قدر للنضال أن يتجسّد رجلاً لكان اسمه لابد يامن فرج، ففي القليل الذي أعرف أن الذي عرفته عن قرب لسنوات عِدة هناك الكثير من القصص والمشاهد والأحداث التي تحكي عن طفل أنهى عقده الأول في حضن انتفاضة الحجارة الملتهب ولتملأه أحداثها ومجرياتها بكل ما حملت من أشكال الرفض والتمرد والفعل الثوري لكن هذه الثورة الشعبية العارمة بكل ما عانته لذلك الجيل تركته فتى في أول النضوج إلاّ أنه لم يتركه وظل كأنه وريثا لتركة تركها الزمان مليء بأكثر ما يستطيع جسده الضئيل أن يفعل مسكوناً بهاجس الاستمرار متمسكاً بغبار خطاب الثورة والنضال والشعارات الكبرى كله قناعتا بأن كل غبار به حقيقه ناصعة البياض ناشطاً على كل المستويات وقائداً ومحرضاً لأقرانه جميعهم لن أدخل في تفاصيل سيرته فهي مثله تتطفح بالتفاصيل إنما وفي نظرة خاطفة على العقد الذي عاشه يامن من عام ١٩٩٤ الى عام ٢٠٠٤ نرى شاباً في منتصف العقد الثاني أو أكثر قليلا يُناضل ويحرض ويقود وينظم ويعتقل ويصمد ويسجن ويحرر ويعمل ويدرس وينشط ثقافياً ونقابياً وطلابياً ويتظاهر ويشتبك ويصاب ويحمل السلاح ويطارد وينهي دراسته ويهدم بيته ويَعشق ويُعشق ويسهر ويثأر ويَدفن ويُدفن إن كل مفرد من تلك هنالك رواية تروى هذه سيرته في عقد عرفته إنا خلاله فأنا ببساطة لم أعرف منه سوى أني شاركته في بعض هذه.
كميل : أعود إلى إشكاليّة التفاصيل التي حيرتك وأضاعت منك نقطة البداية وإن بدأت فستبدأ إشكاليّة أخرى تتعلق بالسرد وهي بدورها ستقودك إلى مربع فعل كان أعجبني تعبيرك الأول بين المتساويين وهي اشكاليّة أخرى تحيرك فيمن تبدأ كأول واذا كان يامن يختصر المفردات اللائقة بالمعنى فإن فادي يزاحمه في حضور المعنى واسمه يليق به ويليق به اسمه، المعنى في الحضور وهو الأكثر ممن قاسمتهم رحله النضال في أغنى محطاتها إننا في زمن الانتفاضة الأولى محجماً أن يلعب دور الطفل في أزقتها وحجارتها وأشترط دور الفدائي قبل أن يقبل التعميد في حجارتها، وحالما اتصلت حلقات فدائياته السبع طوال سنواتها، من يحفل بسبع سنوات عجاف عاقبتها ثم جاء زمن اكتمال فدائياته الشاهقة في انتفاضة أخرى. عندها أدركت أنّه ينضج بفعل نارها وبارودها وأنّه لامس عالم المعنى في حضوره الدائم ولم يلبث أن يسقط عن شجرة الحياة كثمرة طيبة اكتمل نضوجها بالكلمة والموقف والفعل والعشق لكل ما أوتي من جماله في الغياب ومن جلاله في الحضور وكل ما أوتيت أنا من حزن وانبهار وشعور عميق بهذه السكينة، هذا ما كتبته عن فادي أم عن يامن إن تذكرني وإن ضاقت بك السبل نعود معاً إلى عبارتك الافتتاحية ألم تقل يا رفيقي الأول بين متساوية .
نادر: أدرك أننا الآن معاً في ذات المركب التي يخوض في بحر الإرباك فتتقاذفها رياح ازدحام الذكريات و تتلاقفها أمواج اختلاط الصور وتكاد تغرق في لجج الموج العميق ولا ينقذها سوى شراع شموخها البهي المكتفي بصموده بحقيقة أننا عرفناهم وعشقناهم وقاسمناهم الكلمة واللقمة والفكرة والعبرة والدار والمشوار وشاركناهم وجودنا ورحيله.
وفي حديثك عن أبو فدا الذي عرفته أنا فدائياً كما رغب هو أن يكون وكما أحب أن يعرفه الناس يسيطر على ذهنه خاطرين أولهما تلك البسمة الواسعة وهي قوساً يلم الأرض من أطرافنا والقادرة على اختزال كل فرح الدنيا التي يبادر بها من يلقاه من صحبه ، والثاني ذلك المس الرومانسي القابع في ذكر أرض دواخلنا بحيث لا تستطيع جذور أيّ نبتة غرستها الطبيعة في اعماقنا إلاّ أن تتشبث به إن أرادت البقاء وأن تحتكر الدنيا بقانونه في الحكم على طبائع الأشياء من التعلق للاستعارات إلى رهافة الدم ورهافة القلب وحتى جنون الحب وشراسة الحرب وهي وصفات كان يمكن أي منها أن تشفي فادي من كل عِلّة أذكره الآن، وابتسم وكنت أقف فوق جثمانه الممزق ولم أستطع مع هذه الفجيعة إلاّ الابتسام فأنا لم اتعوّد غير ذلك في كل مرة رأيته فيها أكتب لك عن هذا المشهد في حين أدق رأسي بعنف الاقتحام بصوت المفجوع بفقدان فادي وجبريل يقف قربي كصخرة ليناديني صارخاً يستنجي السماء وربما ينذرها بأن لا تأخذ عمره قبل ثأرهم، أبا وطن ذلك المليء بالأمنيات المحروم من وطنه بالتجريد والتجسيد المفعم بالشوق حد التعب والمعجون من جبلة تراب العشق الخشن أفرغ كل ما فيه من عشق وشوق وأمنيات على مذبح الثأر لرفاق السلاح، وأنا الذي عرفته متأخراً وكل ما فيه من مزيج الحنان والغضب والنخوة والنزق واللهفة والحرمان والجرأة والخجل والرجولة وبراءة الأطفال، كنت أدرك أن هذا البركان الثائر الواقف قربي فوق وفاة أحبته والذي دفعه غضبه وفجيعته حينها لامتشاق بندقيتين وكأن واحدة لا تفي بالغرض يشرح صدره ونفسه بأبسط الطرق وأكثرها تعقيداً كما هو وكما عرفته وعشقت كل تعقيدات بسطاته السهل الممتنع المختزل في رجل، وهذه الكلمة الأخيرة تنقل للسان العرب أن يقرنها باسمه بلا أيّ خلل في المعنى أشعر يا رفيقي أني منتش بخمر الذكريات هذا الذي يذهب العقل ولو أضيف ما يأتي بصحوي .
كميل: أشعر بجلال الحزن حين أتذكر كيف كان أبو وطن يمني نفسه أن يحضن وطنه ابنه قبل أن يضمه تراب الوطن، لكن هذا التراب احتضن قامته قبل احتضانه لوطن هل أفجعتك هذه الحقيقة؟ دع عنك ذلك فلولا هذه الفجائع لما اكتمل معنى الشهادة، وجبريل هل تذكر وحي حضوره وايحاءات اشراقاته الجميلة، كان طفلنا مدللاً وشبلنا الذي كبر في سويعات زمن السلاح وغدى أسداً في مملكة الكرامة تشبعه قصة الخبز الجافة ولا تستهويه اللحوم وبذخ الموائد يعوزه الانضباط للقواعد الصارمة وحين يختلط إحداها لا تمتلك إلا أن تغض الطرف وتبتسم لأنه ببساطة يفشل دائماً في التغطية عليها… لكنه ينجح دائماً في تبريره أنه منطقه المميز في احتراف الفدائية وفي عفويته الكامنة بلغة الجسد ومكنون الروح.
وحينما غادرنا مع فادي إلى بلاد المعنى لم أصدق أن كليهما رحلا إلى الأبد؛ فالوجه واحد ولأن الحقيقة اختلطت بالمجاز ولم يعد قلبي يميز وهو مصاب بالعمى في رفق الشهداء أطل على عالمهم وتتسع الرؤية هم بالعشرات بالمئات بالآلاف وأكثر ولكن صورتهم واحدة هيهات أن تتسع العبارة إنها تضيق ولا يسعني حين ذاك إلا أن أخلد للصمت لأنه وحده يليق بهذا الاحتفاء العظيم ولأن الأبجدية تلفظ أنفاسها في ظل هكذا حضور وهناك في قلب القلب ستجد ما هو أعمق ستجد الفؤاد وفي أعماق الفؤاد ستجد بقعة شاسعة كما الكون يسمونها الضمير.
هناك ستجد الأسماء والصور والحكايات والتفاصيل كلها ستجد المعنى في حضوره المتوهج ووجوده ووحدة المعنى من يؤلف بين الشهداء قاصدة منذ فجر التاريخ الكاذب هذا وحتى بزوغ فجر تاريخ آخر يليق بمعنى عالم الشهادة.
نادر: تذكرني بجبريل يا كميل وهل للنسيان أن يبتلع شوكة كجبريل فتظل عالقة في حلقه توجعه بالذاكرة وسيظل جماله وعفويته ولهيبه المتقد وحضوره الطاغي ونشاطه المحموم وفرحه المنبت بالفجيعة القادمة كغزال يبشر بزلزال سيظل في ذاكرته يثبت بطريقته أن الثابت الوحيد هو الحرب.
وأنا لا أعرف أين وكيف ومتى تعلم النضال بهذه الطريقة غير قابلة للسرد لكن ما أعرفه أن له القدرة أن يعلمه لشعب بأكمله.
آه يا كميل أعتقد أن الموت ما صنعه إلا ليثبت قدرته على صنع حي كجبريل وهو الحي الذي وكأنما أعطت فيه الحياة كل احتياطها لعجاف السنين، وعليه اجتمعت فرحتنا وضحكتنا ودمعتنا وحسرتنا نحن الحيارى لجواب السؤال كم فقدنا منذ كسبنا الحياة أشعر بوجد صوفي يجتاحني بعد كل ما أطاح برأسي من عصر الذكريات والوجوه والأسماء والصور التي دورت في قربها معك أثناء رحلة العودة الى حيث تبين أننا لم نترك بحثاً عن النور، ألم يقل المتصوف أنك لم ترَ نوره إلاإاذا سرت في طريقه وهذا النور وهذا الوجد وهذا العرفان وتلك النشوة التي سرت في عروقنا فيما مر من صراخ الورق في محاولتنا جلده بسياط الذاكرة هل كان لغيرنا أن يراه أو يشعره، لست أدري إنما في ختام ما لا ينتهي أود مصارحتك أن استذكارهم هكذا كان بمثابة النار التي اشتعلت فجأة في جليد القهر هذا الذي دب في أطرافنا ومسامنا وشعورنا وكل حياتنا، أما الجليد وبرده سيندحر واما نار ذكراهم ودفء شوقهم واشتياقهم فلها نشيد الخلود يغنيه البقاء ستبقى.