فلسطين المحتلة - خاص قدس الإخبارية: على وقع صوت الرصاص والمدفعيات، امتشق أحمد ذياب قزع بندقيته بعد أن أدى هو وأربعون مقاوماً "صلاة الخوف" في مُصلى حي الياسمينة في البلدة القديمة بنابلس، كي يؤمّن فرارهم من مخرج واحد مُحاصر كان قد كمن فيه لهم قناصٌ "إسرائيلي"، صباح يوم الجمعة في الخامس من نيسان عام 2002.
في ذلك اليوم كان قد اشتد أوج "اجتياح الأربعين يوماً" الذي عمّ مناطق الضفة وغزة خلال انتفاضة الأقصى، وفي حي الياسمينة خارج المُصلّى المُحاصر كانت جثث الشهداء مترامية في طريق مصبوغ بالدم، كما يروي مَن تناقلوا تفاصيل تلك الأحداث.
لم يتوانى أحمد الذي كان يبلغ من العمر حينها (28 عاماً) _حين استجدى رفاقه فيما إذا كان بينهم مقاتل يجيد القنص للقيام بمهمة تأمين الانسحاب_، عن ترشيح نفسه، بعد احتدامهم معه -خِشية تعرضه لمكروه كونه أب لطفلة عمرها ستة أشهر فقط- رغم علمهم بمهارته الفريدة في القنص والرماية التي كان قد اكتسبها بدورة في الأردن استمرت 6 أشهر، حين انتقل من "قوات الـ17" إلى "الشرطة الخاصة" في أجهزة السلطة الفلسطينية، يروي شقيقه محمد لـ"قدس الإخبارية".
تجمع المقاومون وقلوبهم تخفق تأهباً خلف أحمد الذي تقدمهم منطلقاً بعد رصده نقطة القنص الإسرائيلية ليُشاغلها، وهو يراقص الرصاصات التي تستهدفه على إيقاع صوتها يُمنى ويسرى من ساتر إلى آخر، إلى أن فر آخر مقاومٍ أخذت خطاه تتثاقل وهو يتلفّت ويصرخ "أحمد نجونا جميعاً، هيا ارجع"، وفق ما روى الأخير لشقيقه محمد، فإن أحمد سمّ الله ثم كبّر لدى سماعه النداء الأخير، وأخذ يتقدم غير مدبِر مُصوباً عين رشاشه يطلق الرصاصة تلو الأخرى نحو الجنود المتمركزبن عند النقطة، إلى أن سقط أرضاً وتعالت الصيحات "أصيب أحمد، أصيب أحمد".
يستذكر شقيقُه محمد، "فجر ذلك اليوم حينما وصلت أنباء الاجتياح لم يكمل أحمد طعامه، وجمع مَن بالمنزل وأخذ يوصيهم وينظر بتمعّن ويوزّع نظراته، ثم نزع من جيبه ما يحمل من مال، باستثناء أُجرة ذهابٍ توصله إلى المدينة، لينطلق بعدها كرصاصةٍ بلا عودة.
بمزيج من القلق والخوف كان المنزل يستمع إلى الأخبار العاجلة، ليكسر إيقاعه طرق جارهم في المخيم فارس إبراهيم على الباب، يقول محمد، سحبني على انفراد ثم قال لي: "وصلت معلومات مؤكدة تفيد بإصابة شقيقك"، لم يتمالك محمد نفسه وأخذ يسأل "هل استشهد شقيقي؟ هل استشهد؟"، لم يتحمّل فارس وقع السؤال وأخذ هو الثاني يواري نظراته عنه يمنى ويسرى، إلى أن جذبه محمد وثبت وجهته يصرخ بنفس السؤال لعل الجواب يخذل ظنّه، ثم فاجأه احتضان فارس له لينهارا سوياً بالبكاء.
تركتُ جارنا المفزوع بالنبأ، يكمل محمد، وأخذت أبكي وأنادي والدتي "يما زغردي ، ابنك استشهد، أحمد استشهد"، وتعالى النواح في المنزل ليكتظ بأهل المخيم الذين جاؤوا ليتحققوا من صحة الخبر ومكذّبينه، فوجدوه حقيقة ماثلة.
في تفاصيل الاشتباك الأخير، يقول الجار فارس لـِ"قدس الإخبارية" لقد كان أحمد شجاعاً، ورغم أن الروايات تباينت في التفاصيل، إلا أنه ورد في إحداها أن أحمد حينما قرر الانطلاق نحو نقطةِ تمرْكُز الاحتلال، تمكن من قنص الأول فالثاني ثم الثالث، إلا أن ذخيرته خذلته ونفدت فتمكن منه الجندي الرابع بطلقتين، الأولى أصابت وجهه أما الثانية فاستقبلها في صدره، ليسقط أرضاً، وبنفس وضعية اليد التي تشكلت على مقبض الرشاش، تشهّد بها قبل أن ترتقي روحه.
يقول محمد "بعد إصابته تم نقل جثمان أحمد إلى جامع البيك وسط البلدة القديمة هو وقُرابة العشرين شهيداً، ليتحول في ذلك الوقت إلى مشفى ميداني لعلاج مصابي الاجتياح، مضيفاً أنه في أجواء حظر التجوال سكب المواطنون المياه الباردة على الجثامين حتى لا تتحلل سريعاً، وبعد مضي ثلاثة أيام قرروا نقلها إلى بستان "عجعج" ودفنها هناك بشكل مؤقت.
وبعد مضي أسبوعين وفك حظر التجوال، يضيف محمد، انطلقت بين فوج المشيعين وأهالي الشهداء مفجوعاً، لقد كان أحمد من بين قلّة قليلة، وجهه باسم، وجسده لم يتحلل، رائحته زكية، لافتاً إلى أن كرامة الشهداء كانت حاضرة فيه، كان يطلبها منذ صغيره حتى نالها، وفي الأيام الأخيرة كان يستعد لها، صام على غير عادته أيام الأربعاء والخميس، والجمعة الذي استشهد فيه.
أحمد الخلوق وحبيب الفقراء
يصف محمد شقيقَه "لقد كان أحمد الصديق ومخزن الأسرار، الأخ الوحيد، طيب القلب، الحنون، الاجتماعي، صاحب الدين والخلق، وكان من رواد المساجد، لا يُفوّت صوم الاثنين والخميس، طيب التعامل، ويشهد له في كل ذلك من تعامل معه في المخيم".
تقول والدته اُم محمد لـِ"قدس الإخبارية" إن نشأة أحمد امتازت بالمداومة على المساجد وتأثره بالدروس الدينية، يطلب الدعاء له بالشهادة، حتى أنه في إحدى المواقف كان يذهب إلى جدته المريضة يقول لها ادعي لي بالشهادة أنتِ مريضة والله يستجيب لكِ، كان يجيد تلاوة القرآن، مستذكرةً أن بعض الجيران كانوا يبدون تعجّبهم لها بأن ثمّة شخص صوته جميل يُجوّد على سطح المنزل، وتتحسر أم محمد أنها لم تقتني من صوت ولدها مقطعاً على جهاز تسجيل.
وتكمل أم محمد "أحمد البار لوالديه وحبيب الفقراء، ذات مرة طرقت الباب محتاجة فخرج إليها بوجبة طعامه وطلب مني أن أعد له أي شيء آخر، وذات مرّة كان يمر بضائقة مادية فأسلف صديقه ما بحوزته ليساعده في ظرفه، وكان يُعد لي الطعام إذا ما تأخرت في درسي بالمسجد، كذلك يوزّع حلوى "العوامة" الشهية كلما أعدها، على جيرانه ليطعمهم أجمعين".
وتقول أم محمد "قبل أن يستشهد أحمد في الشهر الأخير، أخذني وزوجته وشقيقته الصغرى، فاشترى لنا بكل ما يملك من راتبه ليسعدنا، فعتبت عليه في آخر المشوار، وقلت له: لم تترك لآخر الشهر ولنفسك أي شيء، فأخرج من جيبه ورقة المال الأخيرة وقال: الرازق هو الله، أما هذه المئة فلزوجتي إذا نقص عليها شيء".
نشأته في المقاومة وعشقه للشهادة
في العام 1996 قرر أحمد الالتحاق بجهاز قوات الـ17 التابع للسلطة الفلسطينية،أثار القرار إعجاب البعض واستغراب آخرين، كان يقول دائما إنه التحق بالجهاز ليتمكن من التدرب على السلاح كي يقاوم ويجاهد به، وأنه لا يؤمن به كمصدر وافر لدخله ومعيشته، وأن الأيام ستثبت صدق قوله"، يقول شقيقه محمد.
خلال تلك الفترة بدأت تساور العائلة شكوك حول تأخر الشهيد أحمد حتى ساعات متأخرة، والذي كان شديد التأثر بالأحداث وتصاعدها، فيجيب عند سؤاله أنه كان سهراناً مع أصدقائه، لتكتشف أسرته من خلال السؤال عنه عند أصدقائه بأنه بدأ يرافق مقاومين وقيادات عسكرية في المخيم، يروي شقيقه محمد، أن الظنون بقيت إلى ثبتت عند اكتشاف أحد أفراد العائلة عن طريق الصدفة، وجود غلاف بداخله "أقنعة ولثام وأدوات أخرى توحي بانخراط أحمد بالمقاومة".
ويروي شقيقه محمد، ذات يوم، عاد أحمد إلى المنزل ليلاً يبكي ويقول "الله لا يحبني، لم يخترني، لا يريدني" وعندما هدأ من روعه، سأله شقيقه عن السبب، فرد عليه "لقد كنت في مقدمة المواجهة في أحداث النبي يوسف، كنت مشتبكاً وانا الذي بالأمام، استشهد واحد عن يميني في الخلف وآخر عن يساري، ولم أُصَب أنا"، ثم أظهر سترته لشقيقه ليراها ممزقة من كل الجوانب، دون أن تمس جسده رصاصة واحدة.
أحمد.. بين عمله والانتماء
يروي شقيقه محمد، في شهر آب عام 2001، كان أحمد أحد المناوبين على حراسة محبس القيادي في كتائب القسام محمود أبو هنود، والذي كان موجودا في سجن المقاطعة بمدينة نابلس، "لغرض حمايته"، بعد تعرض الأخير للعديد من محاولات الاغتيال بسبب تخطيطه لعشرات العمليات الفدائية ضد الاحتلال الإسرائيلي.
ربطت علاقةٌ من الأُلفة بين أحمد وأبو هنود، يتبادلان القصص والأحاديث، ويلبي أحمد ما يحتاجه الثاني، وفي إحدى المرات خرج أحمد من المقاطعة إلى الدكان المقابل كي يشتري ما كان يحتاجه أبو هنود، وما من دقائق مضت من خروجه، حتى اعتلت طائرة F16 إسرئيلية سماء المقاطعة وألقت حمولتها من قذائف، لِيُسَوّى مكان القصف بالأرض، فاستشهد 11 عنصراً من الشرطة الخاصة.
يصف محمد "لقد عاد شقيقي مذهولاً من المشهد، يقول: الزلمة حافظ لكتاب الله، ربنا حماه، الحائط الذي كان يتكئ عليه لم يُهدم، أما بقية الغرفة قد هُدّمت وباقي المكان قد نُسف، لقد نجى كما نجوتُ أنا من الغدرة بأعجوبة!".
لم يستشهد أحمد في ذاك اليوم المشهود، ليكمل قتاله ويستشهد هو في معركته الخاصة، ويلتقي بأمنيته وفق شقيقه: "أن يستشهد برصاصة في صدره وهو مقبل، وليس في ظهره وهو هاربا".