فلسطين المحتلة - خاص قدس الإخبارية: من البديهي أن تقوم أية قوة استعمارية احتلالية تقيم لنفسها كيانا داخل البلاد التي احتلتها على النظرية الأمنية الصارمة لمواجهة أية مقاومة يمكن أن تتشكل في وجه مخططاتها الاستعمارية، خصوصا تلك المقاومة التي تخرج من رحم الشعب الرازح تحت الاحتلال.
تتنوع أساليب الاحتلال في مواجهة أية شرارة يمكن أن تتشكل وينجم عنها اشتعال أكبر، من الاعتقال وحتى التصفية، ولكن هذه الأساليب تزداد صرامة وقسوة في الحالات التي يشكل فيها المقاومون حالة استثنائية تستحضر معها كل صور البطولة والفداء، لتكون مثالا يحتذى، كما حصل مع المطارد أحمد نصر جرار الذي تحول بفعله إلى أسطورة.
ومع كل عملية فدائية ناجحة يقوم الاحتلال بتفعيل قدراته الاستخبارية للوصول إلى المنفذين الذين تمكنوا من الانسحاب أو إلى المخططين والمدبرين لهذه العملية، وفي كل مرة تطول فيه المطاردة تصل قوات الاحتلال إلى نتيجة مفادها أن الجهد الاستخباري الميداني لا يكفي وحده فتعمد إلى استحداث طرق جديدة لإحكام الخناق على من أثخنوا فيه طعنا وضربا.
في تجربة أحمد النصر، لابد من الإشارة إلى أن العجز الاستخباري الذي مني به الاحتلال في عمليات المطاردو نابع من كون الاحتلال وأجهزته الاستخبارية، لا تملك أدنى معلومة عن الخلية المنفذة للعملية، خصوصا أن الخلية لعبتها بشكل صحيح بتمويه الجو العام المحيط بالعملية من خلال انتقاء تلك المنطقة لتنفيذ العملية، وهي منطقة تبعد مالا يقل عن 50 كيلومتر عن مكان تموضع الخلية، وهي خطوة تحسب لجرار ورفاقه، بسب الخبراء العسكريين الإسرائيليين.
بهذا الوضع، يتبين أن قوات الاحتلال كانت تبحث عن سراب بناء على معلومات استخبارية خاطئة، لمدة ليست قليلة، فلجأت قوات الاحتلال، كما تفعل في كل مرة، إلى تحويل طريقة البحث.
لا يكن الاحتلال بحاجة لمن ينبهه لمئات العيون الثابتة (كاميرات المراقبة) التي تراقب الشوارع والأزقة من نقطة انسحاب المقاومين من مكان العملية إلى وصولهم لمستقرهم، تلك العيون التي يضعها الناس طواعية في سبيل مراقبة منازلهم وممتلكاتهم لحمايتها ممن يترصد بها من اللصوص وقطاع الطرق، بالإضافة إلى العيون التي ينشرها الاحتلال نفسه على الطرق التي يستخدمها المستوطنون في ترحالهم، هذه العيون كان لها الدور المحوري في الوصول لجرار ورفاقه.
لكن هذه الكاميرات استغرقت من الوقت الكثير حتى حصل منها الاحتلال على ما يبحث عنه، حيث كان المقاومون قد أنهوا استعداداتهم للمواجهة الموقنة مع الاحتلال، حيث كان قد مر على تنفيذ العملية أكثر من 10 أيام، وهي مدة كافية للمقاومين حتى يعودوا لحياتهم الطبيعية بعد العملية التي نفذوها.
وصل الاحتلال إلى يقين بأن المقاومين المنفذين لعملية قتل الحاخام "ازريئيل" قرب نابلس قد أنهوا مهمتهم ووصلوا لمدينة جنين، لتنتقل قوات الاحتلال بعد ذلك لعمليات معقدة استخدمت خلالها كل أساليب الجاسوسية، في محاولة لاقتناص خطئ واحد يقترفه المقاومون يرشدهم لمكان وجودهم.
رتب الاحتلال معطياته، وأكد خلال ذلك على حصوله على مساعدة كريمة من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية، فبدأت عمليات الكر والفر بين جنود الاحتلال والمقاومين الذين لقنوا الاحتلال وأجهزته الأمنية درسا قاسيا بالمقياس الإسرائيلي، فسجلت قوات الاحتلال 4 عمليات عسكرية في جنين وحدها في غضون أسبوعين، نجحت في إحداها من الوصول إلى أحد المقاومين هو الشهيد أحمد إسماعيل جرار ابن عم المطارد أحمد نصر جرار، والذي ارتقى بعد مواجهة باسلة مع جنود الاحتلال الذين جندل منهما اثنين وأصابهما بجراح خطيرة قبل أن يستشهد لتغطية انسحاب ابن عمه أحمد نصر قائد الخلية والعقل المدبر للعملية.
شن جيش الاحتلال عشرات العمليات العسكرية داخل مدينة جنين وفي القرى المحيطة، تركزت معظمها في وادي برقين وقرية برقين، غير أنها فشلت جميعها في الحصول على شعرة من أحمد نصر، فلجأ الاحتلال للعامل التكنولوجي عله يمكنه من الوصول لجرار.
طيَّر الاحتلال عددا من المناطيد وطائرات الاستطلاع في سماء جنين وبرقين، كانت تلك الوسائل تنقل لمخابرات الاحتلال صورا دقيقة لأية تحركات تثير الشبهات داخل المدينة ومحيطها، وبناء على هذه الصور والمعلومات كان جيش الاحتلال يتحرك بسرعة البرق، لكن سرعة أحمد نصر في الانسحاب كانت أسرع من البرق.
كما لجأ الاحتلال للاستعانة بمواقع التواصل الاجتماعي للحصول على معلومات ولو كانت يسيرة قد تساهم في إرشاده عن مكان وجود جرار، فنشر عددا من الصفحات الوهمية باسم المطارد جرار، وكان ينشر العديد من المنشورات التي تحفز الناس للتفاعل معها ليقوموا من جهتهم بالتعليق وتبدأ أجهزة الاحتلال الأمنية بتحليل ما يكتب.
كل هذه الأساليب ترافقت مع عمل ميداني مستمر بلا توقف، وكل ما يخرج من مختبرات التحليل يلقى للقوات العاملة في الميدان لتبدأ من جهتها بالتحرك.
بقي الاحتلال يعمل بهذا الأسلوب على مدار ثلاثة أسابيع، حتى فجر السادس من شباط الجاري، حيث كان أحمد قد وصل إلى مكان مهجور ببلدة اليامون القريبة ليتحصن فيه، فوصلت قوات الاحتلال للمكان وحاصرته وشرعت بهدم الغرفة التي اتخذها أحمد مخبأ له، فرد عليها أحمد بوابل من الرصاص، لتقوم هي بضربه برشقات من النيران الثقيلة ليرتقي أحمد شهيدا، تاركا لمن خلفه قصة أسطورية من التحدي والفداء.
من خلال ذلك كله نصل إلى استنتاجات أهمها أن ما أوصل الاحتلال إلى أحمد وغيره من المطاردين، ليس القدرات الاستخبارية التي تتمتع بها قوات الاحتلال، إنما هي إلى جانب التخاذل والخيانة المتمثل بالتعاون مع الاحتلال، وكاميرات المراقبة المنتشرة بطريقة غير واعية على طول الطرقات بين القرى وداخلها، والتطور التكنولوجي الذي يمتلكه جيش الاحتلال، كل هذه العوامل ساعدت الاحتلال في الوصول إلى أحمد وتصفيته.