الضفة المحتلة - خاص قدس الإخبارية: تحت شجرة التوت في المنزل الكبير، وُضعت السبورة و أمامها رُتبت الكراسي الصغيرة.. مدرسة أصبحت تحت شجرة بعد أن أغلقها المحتلون.. السماء صافية وصوت التلاميذ وشرح المعلم يخالطه بين الحين واﻵخر إطلاق رصاص ومداهمات، العلم نورٌ.. والنورُ سلاح سيشقُ هذه العتمة، هذا ما أيقنهُ التلامذة ومعلموهم وأهاليهم، في فترات صُبغت فيها المدارسُ بالانتفاضة فأصبحت شعبيةً.
خلال الانتفاضات.. سبيل المواجهة واحدخلال اندلاع الانتفاضة اﻷولى، عمدت قوات الاحتلال إلى إغلاق المدارس بحجة أنها تُشكّل بؤرة لاشعال فتيل الانتفاضة، وتكرر هذا الأمر خلال فترة الانتفاضة الثانية، أراد الاحتلال بهذا أن يخمد الثورة الطلابية ولكن ما تحقق ما أراد.
"كنت حين اندلعت الانتفاضة اﻷولى في الصف الثاني"، يتحدث محمد الجلاد لمراسلة قدس الإخبارية، ويكمل روايته، "كان الاحتلال يغلق المدارس لفترة طويلة تصل ﻷشهر، ومن هنا خرجت فكرة المدارس الشعبية، أذكر البيت الذي كنّا ندرس فيه فهو ذو ساحة واسعة جداً، وكنا نجلب معنا كراسي بلاستيكية، وصفي كان تحت شجرة توت كبيرة، وكانت المناهج هي ذاتها التي ندرسها في المدرسة من علوم ورياضيات ولغة عربية وغيرها".
اﻷستاذ أنور الواوي، من بلدة بلعا قضاء طولكرم، كان أحد المدرسين في المدارس الشعبية، "خلال فترة الانتفاضة اﻷولى، وبسبب إغلاق الاحتلال للمدارس لفترات طويلة، كان يترتب على ذلك ترفيع الطلاب للصفوف تلقائياً دون تمكينهم من المنهاج، فالطالب يدرس شهر أو شهرين ثم يرفّع لصف آخر"، هذا ما دعا اﻷهالي والمعلمين للتحرك ﻹيجاد حل، في محاولة لمنع ضياع الطلاب، ومحاربة سياسة التجهيل التي يحاول الاحتلال فرضها، ومن هنا نشأت فكرة المدارس الشعبية بحسب ما رواه الواوي لـ قدس الإخبارية، وهو ما أكدته النائب في المجلس التشريعي منى منصور، والتي كانت مُدرّسة في المدارس الشعبية في نابلس خلال الانتفاضتين، "اﻹنسان اﻹيجابي هو من يتلقف الفكرة ولينهض بالواقع، ففكرة المدارس الشعبية انطلقت بشكل جماعي من هم الشعب".
ويضيف الواوي، "في تلك الفترة أخذنا على عاتقنا نحن وبعض الشباب في مسجد الخضر - عليه السلام- بتقسيم المسجد إلى عدة غرف باستخدام الستائر والخشب، وجلبنا بعض المقاعد الصغيرة التي توضع عليها المصاحف وجمعناها من مساجد البلدة، وكان قسم من الطلاب يجلس على اﻷرض، وكذلك أحضرنا ألواحاً وطباشير، فتحول المسجد إلى مدرسة، كان اﻹقبال عالياً جدا والناس مسرورين من الوضع".
"لا زلت حين أمر بجانب بعض المناطق أستذكر وأحدث نفسي كنا نُدّرس في هذه العمارة" تستذكر منى منصور ذكريات تدريسها في المدارس الشعبية خلال حديثها لمراسلة قدس الإخبارية، "في إحدى المرات قمنا بتغطية كراج السيارات بالنايلون تخفياً من الجيش، الطلاب بذلك أصبحوا يحبون العلم ويحبون أجواء المدرسة، كنتُ أدرس الفيزياء والعلوم العامة وأي مادة أستطيع تدريسها، في بعض المرات كنت أعطي حصتين لصفين مختلفين، أشرح للأول وأعطيه واجباً، ثم أذهب لحصة الصف اﻵخر".
" كنتُ في آواخر فترة الانتفاضة الثانية في الصف الرابع، وكنا وين في روضات أو مخازن نروح نتجمع فيها وندرس"، تقول أمان منصور لـ قدس الإخبارية، وتكمل، "في إحدى المرات جلسنا ندرس في مطبخ، جلس الشباب على المَجلى، والفتيات جلسن على اﻷرض، كانت مدرستنا الشعبية في روضة، حينها كنا نقيم في محيط مشفى رفيديا، وكانت منطقة أمنية مغلقة، فكنّا جميع أبناء الحارة نتجمع وكلٌ يحمل كرسيه من بيته حتى لا يؤذينا الاحتلال في إشارة أننا ذاهبون للمدرسة ولسنا نريد ضرب الحجارة، نمر من جانب الدبابات جماعات، ونخرج سوياً ونعود سوياً".
مراغمة الاحتلال في التعليم
بعد نجاح فكرة المدارس الشعبية، شدد الاحتلال إجراءاته واعتبرَ اللجان الشعبية بأنواعها التكافلية أو التعليمية نوعاً من أنواع التحريض.
"الظرف في تلك اﻷيام كان يختلف كلياً"، يقول اﻷستاذ الواوي، ويتابع، "أي لجنة كان يعتبرها الاحتلال امتدادًا للتنظيمات، بالتالي يحاربها ويضيق الخناق عليها،كان الجيش كثيراً ما يداهم بلعا ويأتي لمنطقة المسجد تحديداً، ولكن بفضل سواعد شباب الانتفاضة الذين كانوا يشغلونهم برشق الحجارة حتى يعود الطلاب لبيوتهم سالمين".
"كانت طريقة الوصول للغرف التي كانت تسمى مدارس شعبية من خلال مغافلة الجيش"، تتابع منى منصور لـ قدس الإخبارية، "كنا نحمل الكراسي نحن والطلاب ونركض من مكان ﻵخر، كانت تجربة مهمة تعبر عن حب الفلسطيني للعلم والوطن، وحبه للتحدي الاحتلال".
"من الطرق المتبعة في مغافلة الجيش، ولكي نفوت عليه كل الفرص ﻹيقاف نشاط المدارس الشعبية، هي أننا كنا نكتب على السبورة سورة اﻹخلاص، بحجة أننا ندرس تحفيظ وتجويد القرآن، ولكن يكون أمام الطلبة كتاب لغة عربية أو رياضيات تحسباً لأي مداهمة، كما أننا اخترنا أن يكون القائم على التعليم معلمات إناث فقط "، يخبرنا أنور الواوي.
صعوبات أمام المدارس الشعبية
"كونها مدارس شعبية لم يكن الجميع يرسل أبناءه إليها"، يروي الجلاد لـ قدس الإخبارية، "كان هذا بسبب الأحداث أو طبيعة المكان، فبعض أبناء صفي لم يكونوا يأتون للمدرسة، وهذا يرجع للأهل أيرسلون أبناءهم أم لا، وكانت المدارس بطبيعة الحال مختلطة، فأذكر أن أخي الأكبر مني رفض الذهاب للمدرسة الشعبية لهذا السبب".
أما أنور الواوي فيرى أن قلة الدعم المادي كانت مسبباً للمشاكل فمعظم المعلمات كُنّ متبرعات بلا مقابل، "توفير الطباشير والألواح والأقلام والدفاتر كان بحاجة لمال وهذا شكل نقطة ضعف، ورغم أنه كان عمل بدائي وغير مدعوم إلا أننا كنا نشعر بالمتعة والإنجاز وروح التحدي، كان ذلك يشعرنا بمراغمة الاحتلال وأننا نقاومه في أبهى الصور لمواجهة سياسة التجهيل".ويتابع الواوي استذكاره لنقاط ضعف تلك المدارس "نقطة ضعف مهمة كانت وهي امتناع بعض الأهالي عن إرسال أبنائهم بحجة أن هؤلاء المدرسين في المسجد شيوخ، فيعطون المدارس الشعبية صفة الحزبية كان هذا في البداية، أما بعد ذلك اندمج الجميع وكان عدد الطلاب يتراوح بين 150- 200 طالب وطالبة تقريباً".
نتائج وجود المدارس الشعبية ودورها
يعتقد محمد الجلاد أن الاحتلال كان يتصور في تلك الفترة أنه إذا أغلقنا المدارس، فإن الأهالي أنفسهم سيقفون ضد الانتفاضة، "كان يظن أن الناس سوف تشعر أن الانتفاضة أثرت سلباً على أطفالهم وبالتالي يحاربون الانتفاضة، ولكن الأهالي وجودا الحل للحيلولة دون تحقق هدف الاحتلال، فكان دور المدارس الشعبية بلا شك داعماُ للانتفاضة".
أما منى منصور فترى أن المدارس الشعبية كما الانتفاضتين زادت الروابط الاجتماعية بين الناس، وتضيف لـ قدس الإخبارية، "أشعرتنا بمدى وحشية وإجرام الاحتلال ومحاربته للشعب والعلم".أما الواوي فيرى أنه "في تلك الأيام كانت الانتفاضة شعبية، بمعنى أن كل بيت له علاقة بالانتفاضة بشكل أو بآخر، كانت الفصائل موجودة وعلى رأس عملها ولكنها كانت محجمة ودورها قليل وصغير، بمعنى أن الناس والشعب من كان يقود الانتفاضة ومجرياتها".