"إن عام 2017 هو عام إنهاء الاحتلال وهذه ليست أمنيات، فالطاقات الفلسطينية الدبلوماسية والقانونية والشعبية خصصت لعقد مؤتمر دولي للسلام قبل نهاية العام، وإقامة دولة مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود عام 1967، فقد بلغت من العمر 81 عامًا ولن أنهيها بتنازل أو تخاذل أو بيع". بهذه الكلمات، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومقر الرئاسة بمدينة رام الله، أنهى الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، عام 2016.
لتحقيق ذلك، عملت السلطة الفلسطينية على مدار عامٍ كامل على تقديم طلبات لرفع مستوى العضوية في الأمم المتحدة وعقد لقاءاتٍ ومؤتمرات دولية، مستخدمة بذلك مسار المجتمع الدولي كحاضنة لأية تفاهماتٍ سياسية تعود بها إلى المفاوضات مع الإسرائيليين، وهذا ليس بجديد، لكن تعزز في السنوات الأخيرة، حتى أضحت الخطوات الدبلوماسية شرطًا للمضي في أي تحرك سياسي خارجي ينعكس بدوره على مسارات عمل مؤسسات السلطة الفلسطينية في سبيل إنهاء الاحتلال وبناء الدولة الفلسطينية.
بالترتيب الكرنولوجي، عوّلت السلطة الفلسطينية مطلع العام على مؤتمر باريس الدولي للسلام، وفتحت الباب بعد ذلك لأول لقاءٍ مع مبعوث الرئيس الأمريكي، "دونالد ترامب"، إلى الشرق الأوسط، "جيسون جرينبلات"، لعقد اتفاق تسوية تاريخي، ومن ثم نسقت مواقفها وجهودها للمرحلة القادمة مع الملك الأردني عبد الله الثاني، والرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في منطقة البحر الميت في الأردن، وتلا ذلك حصولها على قرارين دوليين بخصوص القدس في "اليونسكو" وتأكيد حل الدولتين في برلمان "الاتحاد الأوروبي".
وفي النصف الثاني من العام، اهتمت السلطة الفلسطينية بزيارة الرئيس الأميركي، "دونالد ترامب"، ومبعوثيه لعملية السلام في المنطقة، وقُبِلَت عضويتها في منظمة الشرطة الجنائية الدولية "الإنتربول"، وبعده اصطدمت بمجموعة من الضغوطات الأميركية بإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن قبل أن تتراجع عن القرار بعد ذلك، وأقرار مجلس النواب الأميركي مشروع قانون يخفض المساعدات الأميركية المقدرة بـ 300 مليون دولار أميركي، وقرار الرئيس الأميركي، بإعلان القدس عاصمةً لكيان الاحتلال ونقل السفارة إليها.
تحظى الدبلوماسية بأهمية قصوى لدى البيت الداخلي للسلطة الفلسطينية، حتى باتت عنصرًا محوريًا على طريق "أيديلوجيا بناء الدولة" على حساب التحرر، وهذا نوعٌ من الإمكانات السياسية للحصول على أكبر قدر ممكن من الدعم الإقليمي والدولي، والتنقل بين عواصم الدول العربية والدولية، ومحاولة الالتقاء بأطرافٍ سياسية على اختلاف مصالحها مع السلطة الفلسطينية.
فعليًا، ترى السلطة الفلسطينية بأنها حققت إنجازًا دبلوماسيًا بانتقالها إلى مرحلة "الدولة" منذ العام 2012، عندما حصلت صفة دولة مراقبة غير عضو في الأمم المتحدة، إلا أن ممارسات "الدولة الدبلوماسية" والمحكومة بالعديد من المعاهدات والاتفاقات الدولية، أكدت أنها خطوة رمزية أكثر من كونها مؤثرة، ورغمًا عن ذلك تعوّل السلطة الفلسطينية على العمل الدبلوماسي والقانون الدولي كطريق للحصول على الدولة.
تفسير مظاهر صفة "الدولة الدبلوماسية" يعود بنا إلى تناقضات الدبلوماسية الفلسطينية، كوقف التحرك إثر الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، المعطلة بقرار من السلطة الفلسطينية، والتأخير في تقديم شكاوى للمحاكم الدولية بقضايا جرائم الحرب الإسرائيلية وبناء المستوطنات وجدار الضم والتوسع، ولهذا تبدو السلطة الفلسطينية غير مستعدة للاستفادة من الإجراءات القانونية الدولية أو أنها غير قادرة على تحمل أية تبعات لتقييد سلطتها على الأرض وخفض قيمة المنح والمساعدات الدولية أو حتى منع القيادة الفلسطينية من السفر خارج الضفة الغربية.
ولأن السلطة الفلسطينية تحت ستار أيديلوجيا بناء الدولة، باتت تعاني ضعفًا في شرعيتها، في ظل سيناريوهات التسوية المطروحة، فإنها لن تتمكن من حل إشكالية الدولة، ولهذا فهي تخدع نفسها والفلسطينيين تحت ستارة "الدولة الدبلوماسية" من أجل تثبيت سلطتها.
في نهاية العام الماضي، صوت مجلس الأمن الدولي على قرارٍ بإدانة الاستيطان الإسرائيلي في الأرض المحتلة، واعتبرت السلطة الفلسطينية ذلك إنجازًا دبلوماسيًا بكسب موقف الولايات المتحدة الأميركية لامتناعها عن استخدام حق الفيتو ضد إدانة ممارسات الاحتلال، إلا أن المؤشرات على الأرض تفيد بأن "إسرائيل" في عام 2017 كثَّفت من توسيع المستوطنات والوحدات السكنية في الضفة الغربية المحتلة، وبمعدلات تقارب التوسع الاستيطاني في العام 2016، التي سجلت معدلات أعلى بنسبة 40% مما كان عليه في عام 2015، التي تعد ثاني أعلى معدل نمو استيطاني منذ العام 2001.
لهذا فإن استمرار الوضع القائم، أي اعتبار سلطة الحكم الذاتي لنفسها على أنها "دولة"، تمارس مهامها الداخلية والخارجية وفق قرارات دولية، يشكل منفعة رئيسية للمحتل حيث يمكنه ذلك، التربح من فاتورة الاحتلال دون مجابهة الاحتلال نفسه. وبالتالي تبقى "إسرائيل" غير مهتمة بشكل حقيقي بالمسارات السياسية الدولية في حال بقيت في إطار الوضع القائم، حتى لو كانت تلك القرارت والمعاهدات ملزمة دوليًا، فالأساس في القانون الدولي يكمن في المعاملة في المثل، أما في حال فشلت السلطة في حماية الاحتلال العسكري القائم وتخلت بشكل فعلي عن التنسيق الأمني، تصبح سلطات الاحتلال تسعى للبحث عن تسويات أخرى لها علاقة بتغيير صفة هذه السلطة وطرح صيغ حل جديدة، وبهذا بقصد أو بدون تصبح السلطة الفلسطينية عبر المسارات الدولية تساهم في إطالة أمد الاحتلال.
شكل إعلان ترامب بشأن القدس، صفعةً حقيقية للسلطة الفلسطينية ودبلوماسيتها ومشروعها السياسي، فالسلطة التي ترى في قرارت الأمم المتحدة والقانون الدولي، أساسًا في حكم الفلسطينيين، أضحت بعد القرار غير قادرة على حماية مشروعها ودولتها الدبلوماسية، ولهذا تسبب إعلان ترامب في إرباكها على المستوى الداخلي والخارجي.
أميركيًا، جاء الإعلان بمثابة تعبير حقيقي عن إنزياح الإدارة الأميركية باتجاه المعسكر اليميني في إدارة ترامب، وتعبيرًا عن استغلال الرغبة الجامحة لدى بعض الأنظمة العربية لتطبيع العلاقة مع "إسرائيل"، خصوصًا أن ترامب يسعى لتحقيق أي نصر لدى الأوساط اليمينية ينقذه من تراجع شعبيته الداخلية بسبب التحقيقات الداخلية والمشاكل التي تعاني منها إدارته.
فلسطينيًا، أدرك رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، بأن أزمة الفراغ في إدارة الضفة الغربية وقطاع غزة، والتوجه الأميركي الجديد، وعدم قدرته على حماية المصالحة الفلسطينية من الارتباك القائم، أضحى تهديدًا حقيقيًا له ولمشروعه السياسي بحل الدولتين، في المقابل، تكمن الأزمة بإصراره أن الرد الفلسطيني على كل هذه الأزمات الداخلية، يكون بالبحث عن رعاية جديدة للحل السياسي غير الولايات المتحدة الأميركية، تمامًا هذا هو الكلاشيه الجديد الذي سيستخدم من أجل إعادة إنتاج نفس المعضلة.
بشأن القدس، تستطيع الولايات المتحدة الأميركية وبالشراكة مع دول إقليمية أن تمضي في مشروعها السياسي وتفرض خياراتها على الفلسطينيين وعلى حلفاؤها من الدول، ويبدو أنها استنتجت بأن استمرار الاحتلال لا يشكل عائقًا أمام الولوج في تسوية سياسية تقوم على تطبيع العلاقات مع "إسرائيل"، وذلك يعني أن المقاربة الخاصة بانتهاء دور الولايات المتحدة الأميركية كوسيط في الصراع، غير ذي صلة بإنهاء الاحتلال، بل مرتبط بانتهاء دور الولايات المتحدة في المنطقة العربية.
فضلًا عن ذلك فهي أدركت بأن السلطة الفلسطينية وحدها غير قادرة في الدخول بتسوية سياسية دون ضغط من دول إقليمية، ولهذا دعت بعض الدول العربية لأخذ زمام المبادرة في الضغط على السلطة الفلسطينية من أجل إنهاء ملف المقاومة الفلسطينية وبسط سيطرتها الأمنية في قطاع غزة. عمليًا، وبغض النظر عن مستقبل سياسة الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، فإن إعلان ترامب يمكن اعتباره بمثابة استنتاجات عامة مفادها أن هذا الاحتلال، هو احتلال عادي يمكنه القيام بعلاقات مع دول العالم وبشكل طبيعي.
في المقابل، فإن الدولة الدبلوماسية التي تصر عليها قيادة السلطة الفلسطينية، ليست وهمية فعلًا، فهي قادرة على حماية الاحتلال، فالهاجس الأمني لإسرائيل أضحى غير مرتبطٍ بإنهاء الاحتلال بل بتسوية العلاقات مع الدول العربية. ولتحقيق ذلك تخصص السلطة قرابة مليار دولار من موازنتها السنوية للقطاع الأمني، في مقابل 200 مليون دولار لسفاراتها وموظفيها ذو الرتب العالية. وعليه فإن سلسلة القرارات المرتبطة بتصويت الدول بشأن القضية الفلسطينية، لا يمكن اعتبارها نجاحًا دبلوماسيًا لإنهاء الاحتلال، بل هي موقفٌ أخلاقيٌ للمجتمع الدولي تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
ما يحصل مع الفلسطينيين هو أن حركة تحرر وطني لم تنجز مشروعها التحرري، تحولت لتصبح "سلطة بلا سلطة"، تسعى لإنهاء الاحتلال وبناء دولتها، وترى بأن الدولة الدبلوماسية أولى من التحرر.
فعليًا ما لا تدركه السلطة الفلسطينية، بأنه لا حريّة بدون نضال ومقاومة، بل النضال لأجل الحريّة تاريخيًا يسبق في تحقّقه بناء مؤسسات الدولة بعقود طويلة، ولهذا فإن نضال الفلسطينيين على الأرض ومقاومتهم لمماطلة السلطة بإنهاء الاحتلال، يعني رفضًا حقيقيًا لأية تنازلات سياسية جديدة قد تقبل بها السلطة الفلسطينية، على حساب الشعب وقضيته، كما حصل في اتفاقية أوسلو.
وحدهم الفلسطينيون اليوم لديهم القدرة على فرض نضالٍ جديد لا يقبل بالمفاوضات ولا بالتسوية السلمية، فقد حان الأوان لدفن حل الدولتين وإنهاء الاحتلال والبحث عن خيارات تقدمية تضمن للشعب الفلسطيني حق تقرير مصيره.