في ذكرى إبعاد والدي إلى جنوب لبنان، تُروى حكاية مخيّم مبعدين تحوّل إلى مخيم كشفي ومؤتمر دولي
في مثل هذا اليوم عام 1992، وبعد ثلاثة أيام فقط من وفاة جدي لوالدي، اقتحم جنود الاحتلال منزلنا واعتقلوا والدي وأبعدوه إلى مرج الزهور جنوب لبنان برفقة 417 من كوادر وقادة حركتي حماس والجهاد الاسلامي، كنت في العاشرة من عمري..
الحكومة الاسرائيلية أعلنت في حينه أن هذه الخطوة جاءت ردأ على تصاعد العمليات العسكرية التي نفذتها حركة حماس في الضفة وغزة، والتي كان آخرها عملية خطف وقتل الجندي الاسرائيلي "نسيم توليدانو"، غير أن مراقبين اعتبروا هذه العملية أنها جاءت تهميداً لتوقيع اتفاقية السلام بين منظمة التحرير ودولة الاحتلال وافساح الطريق أمام عودة ياسر عرفات للأراضي الفلسطينية.
كان الحدث بالنسبة لنا وكما بقية عوائل المبعدين صعباً وغير مألوف، فلم يسبق أن أبعد الاحتلال هذا الكم الكبير من الفلسطينيين دفعة واحدة إلا أيام النكبة والنكسة، كان الخوف والحزن يملئ قلوبنا، كانت عشرات الاسئلة تحاصرنا وتلح علينا كل يوم دون إجابة، هل سيعود والدي؟ أم سيكون مصيره كسابقيه؟ وكم ستسمر هذه المحنة؟ هل سيعود إلى بيته أم إلى السجن أم إلى مكان أخرى؟ كيف سيعيش المبعدون في هذه المنطقة الحدودية الخطرة الباردة الصخرية؟
لا زلت أتذكر الرسائل والصور التي كان يرسها لنا والدي كل شهر عبر الصليب الأحمر، كما كان يتصل علينا من حين لآخر، كنا ننتظر مكالمته على أحر من الجمر لمعرفة أخباره وأحواله، كان صوته عبر الهاتف بعيداً وضعيفاً ومشوشاً ولكنه كان مليئأ بالأمل والتفائل بالعودة، كنا نصرخ بأعلى صوتنا حتى يسمعنا، في حين كانت والدتي تنهمك بالبكاء بعد كل مكالمة.
خلال فترة الابعاد كنت أشارك إلى جانب والدتي في الفعاليات التضامنية والاعتصامات التي كانت تنظم في نابلس وأمام مقر الصليب الأحمر، كنت أحمل صورة والدي، وأردد بعض العبارات بصوت مرتفع، كما كانت بعض الوفود التضامنية تأم منزلنا وتأتي لزيارتها خاصة في شهر رمضان والأعياد، لا زلت أتذكر "السيف" البلاستيكي الأسود ومقبضه المذهب الذي أهداني إياه الشيخ عبد الرحمن الشريف الذي كان على رأس وفد من الحركة الاسلامية، فيما أعطوا شقيقتي دمية ذات شعر أشقر.
بعد حوالي سنة، بدأ المبعدون يعودون إلى ديارهم بعد صبرهم أولاً والانتقادات الدولية التي وُجهت لدولة الاحتلال، جرى الأمر على دفعات، وكان والدي من بين أسماء الدفعة الأولى، كانت فرحتنا غامرة، ولكنها كانت ناقصة فكنا نتمنا أن يعود جميع المبعدين مرة واحدة، كما كنا نخشى من اعتقال والدي فور عودته.
حدثنا والدي عشرات القصص والمواقف التي عايشها المبعدون هناك، مواقف صعبة وأخرى سعيدة، أيام عانوا فيها من البرد القارص والثلج الذي كان يصل ارتفاعه إلى مترين، وأيام أخرى تمتعوا فيها بجمال الطبيعة وسبحوا في مياه الجداول والأنهار التي كانت تنتج عن ذوبان الثلوج، لحظات عانوا فيها من القذائف الاسرائيلية التي كانت تتساقط على مقربة منهم، ولحظات أخرى استطاعوا خلالها تحويل تجمعهم من مخيم إبعاد إلى مخيم كشفي، من مخيم لاجئين ومبعدين إلى مخيم ثابتين رفضوا الدخول إلى الاراضي اللبنانينة كما كان يخطط الاحتلال ويشتهي.
هم كانوا متأكدين أنهم في حال اختاروا الدخول للبنان فهذا يعني استحالة عودتهم وذوبانهم هناك، حينها لن تفلح حينها جميع القرارات الدولية وبيانات الشجب العربية في عودة واحدة منهم، كانت كارثة النكبة ومأساة النكسة حاضرة في مخيلتهم، لذلك آثروا البقاء في المنطقة الحدودية الرمادية بين بياض الثلج وسواد الصخور.
استطاع المبعدون تبديل محنتهم إلى منحة حيث تحول مخيم "العودة" كما أطلقوا عليه إلى مؤتمر دولي ضم صفوة أبناء الحركة الاسلامية من الجيل المؤسس والجيلين الثاني والثالث، مؤتمر كان من المستحيل انعقاده في فلسطين، مؤتمر نقل الحركة من مرحلة المحلية إلى العالمية، ساهم بذلك مئات الصحفيين العرب والمسلمين والأجانب الذين قصدوا المخيم ونقلوا أخباره على الهواء مباشرة، كما زار المخيم عشرات الوفود والشخصيات الرسمية والشعبية، وهو ما دفع حكومة الاحتلال للاعتراف صراحة بأن الابعاد كان قراراً خاطئاً.
كان المخيم (والحديث لوالدي دوماً) أشبه بدويلة تضم جميع الوزارات والتخصصات: أطباء وصيادلة..ممرضون ومهندسون.. محامون وصحفيون.. أكاديميون جامعيون وأساتذة مدارس.. مشايخ وعلماء في الشريعة.. عمال بناء ومزارعون.. رجال أعمال وتجار.
لا زلت اذكر بعض الحكايا التي كان يقصها علينا والدي، كان اللبنانيون في بادئ الأمر متوجسين خيفة من المبعدين، فقد كانت صورة الفلسطيني في مخيلتهم سلبية قاتمة بين سكير أو لص أو خاطف بنات أو قاطع طريق، هذه النظرة ظلت في مخيلتهم وورثوها منذ أن كان عناصر منظمة التحرير بين ظهراينهم قبل إجلاء بعضهم عام 1982، لم يصدق اللبنانيون أن هؤلاء المبعدين هم فلسطينيون، ولكن سرعان ما تبدلت هذه النظرة وتغيرت بعد أن خبروهم عن قرب وخالطوهم.
كان المبعدون يساعدون جيرانهم اللبنانيين في قطف ثمار الزيتون والتفاح والعنب، وفي حراثة الأرض على الدواب وتقليم الاشجار وتركيبها، فالريف الفلسطيني لا يختلف كثيراً عن نظيره اللبناني، كما عالج الأطباء المبعدين المرضى اللبنانين من أبناء القرى المجاورة لمخيمهم، فبدل أن يساعد اللبنانيون المبعدين انقلبت الصورة وانعكست الآية، عاد المبعدون إلى ديارهم وبقيت ذكراهم الطيبة في أذهان اللبنانيين.
حدثنا والدي ومن باب عدم نكران الجميل عن دور حزب الله والايرانيين في دعم المبعدين، حيث ساهموا في مد خطوط المياه والكهرباء للمخيم، وزودوهم بالبطانيات والملابس والطعام، هذا عدا عن الدعم الإعلامي، ورغم كل هذا لم يغير المبعدون مبادئهم ومعتقداتهم السنية، فقد كان والدي وفي رسالة رمزية يصر عند لقاء بهم على أن يبدأ حديثه بالصلاة على رسول الله وآله والخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
وفي ذات الوقت قدمت جماعة الاخوان المسلمين بمختلف فروعها ومسمياتها في الدول العربية والغربية والاسلامية الكثير للمبعدين، دعماً مادياً ومعنوياً وجماهيرياً، وقصد المخيم عشرات الوفود والشخصيات كان من بينهم الشيخ فتحي يكن من لبنان وسيف الاسلام حسن البنا من مصر نجل مؤسسة الجماعة، وقد بدت هاتان الشخصيتان في صورة جمعتهما بوالدي لا زالت محفوظة حتى اليوم في ألبوم الصور الخاص بالابعاد.
كان والدي رحمه الله يحدثنا في بعض مجالسه انه كان يقول للمبعدين بعد أن تقطعت بهم السبل في مرج الزهور: ستعودون الى فلسطين وسيختار الله من بينكم الشهداء، كما سيجعل من بينكم قادة ووزراء ونواباً.
وما هي إلا سنوات حتى عاد هؤلاء المبعدين، فمنهم من قضى نحبه شهيداً خلال انتفاضة الاقصى، جمال منصور، جمال سليم، يوسف السركجي، صلاح دروزة، محمود أبو هنود وغيرهم الكثير، ومنهم صار عضواً في المجلس التشريعي والمجالس البلدية ومنهم من صار وزيراً في الحكومة العاشرة، ومنهم نفر قليل بقي في لبنان ومنها إلى سوريا واختار طريقاً آخر