دولة ما بعد الاستعمار غير مؤهلةٍ بالتعريف لخوض المواجهة مع الصهيونية، ورغم محاولتها التصدي له، وإصرارنا على التمسك بسقف إصلاحها مرةً بعد مرة، إلا أن التجربة التاريخية على مدى 100 عامٍ من الصراع أثبتت أن تعويلنا على إصلاحها باعتبارها سلاحنا في المواجهة خاسر حتى الآن، والواضح أنه لا يتجه إلا إلى مزيدٍ من الخسران.
منذ احتلال بريطانيا للقدس في 9/12/1917 تصدّر الفعل الشعبي الفلسطيني والعربي في انتفاضة موسم النبي موسى 1920، وثورة البراق 1929، وانتفاضة يافا 1933، والثورة الفلسطينية الكبرى 1936، وحرب لبنان 1982، والانتفاضة الأولى 1987، وهبة النفق 1996، والانسحاب من جنوب لبنان وانتفاضة الأقصى 2000، وحرب لبنان 2006، وحروب غزة 2008 و2012 و2014، وانتفاضة السكاكين في القدس 2015، وهبة باب الأسباط 2017، على مدى أكثر من 20 هبة وثورة شعبية وحرب سجَّل الفعل الجماهيري مساحةً بين الصمود وتحقيق التقدم النسبي أو النصر، ولم يسجّل هزيمةً مدويةً أو انهياراً في أية محطّةٍ من محطاته، مع إدراكنا بأن الإمكانات الاستعمارية كانت أكبر من إمكاناته بفارقٍ شاسع.
أما دولة ما بعد الاستعمار –أو النظام الرسمي كما يسمى- فخاض الشق الثاني من حرب 1948 ليخسر 78% من فلسطين بما فيها غربي القدس، وليسجِّل حالة صمود محدود خلال محاولة إصلاحه الأولى عام 1956 رغم خسارته المؤقتة لقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء، وليسجل خسارته المدوية عام 1967 بخسارة الضفة الغربية بما فيها المركز الديني والتاريخي للقدس، وهضبة الجولان وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء بأسرها. سجل النظام الرسمي العربي والإسلامي بأسره نصره الوحيد المحدود في حرب 1973، حيث اتخذ الإنجاز مدخلاً للخروج من الصراع ليتجنب من بعدها العودة إليه بأي ثمنٍ.
44 عاماً منذ آخر انخراطٍ لدولة ما بعد الاستعمار في مواجهة الكيان الصهيوني، بشقيها الممانع والمتحالف مع الولايات المتحدة، رغم أن هذه العقود الطويلة شهدت احتلال عاصمةٍ عربية وحروباً ومجازر وعدواناً على القدس والأقصى يتصاعد ولا يتوقف. في كل مواجهاتها كانت دولة ما بعد الاستعمار تحقق هزيمةً مدوية، أو صموداً محدوداً، أو نصراً محدوداً واحداً وظفته لمغادرة ساحة المعركة، ولم تسجل ملحمةً أو نصراً يعتدّ به أو يُبنى عليه، واخترات أن تقضي نصف عمر الصراع متفرّجة.
ترى؛ لماذا يحصل ذلك؟ لعل التفسير الأكثر وضوحاً هو أن دولة ما بعد الاستعمار العربية والإسلامية، وتحديداً الدول التي كانت منضوية تحت الدولة العثمانية، استقلّت عن الاستعمار بتسويةٍ ومصالحة وليس بثورةٍ ناجزة، ما خلا حالة الجزائر. الحرب العالمية الثانية أنتجت ميزانا قوىاً جديدا جعل فرنسا وبريطانيا غير قادرتين على الاحتفاظ بسيطرتهما على العالم في حضور قطبي العالم الجديدين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، فكان لا بدّ من إخلاء المشهد أمام نفوذ القطبين الجديدين وهذا كان السبب المباشر لمنح معظم الدول العربية والإسلامية استقلالها. هذا أدى في المعظم إلى منح الاستقلال لدولٍ مفتتة ومجزأة، لا تتفق حدودها الجغرافية مع حدودها الثقافية، كما سمح للاستعمار بالتصالح مع نخبةٍ حاكمة تحكم بالتعاقد معه، وهذا انتهى إلى محدودية قدرة هذه الدولة على مواجهة المشروع الاستعماري المزروع في قلبها: المشروع الصهيوني. ورغم محاولات تلك الدول الانعتاق من نتائج هذا الاستقلال الاسمي المشوه بثوراتٍ متعددة، إلا أن معظم تلك الثورات فشلت في المحصلة في الخروج من الهيمنة الأمريكية، وها هي محاولة الإصلاح الثانية في زمن الثورات العربية 2010-2016 تخرج بدولٍ مدمرة أو بدولٍ أكثر هرولةً نحو الصهاينة للاستدفاء بحضنهم.
في ظل معادلة كهذه يمسي مفهوماً جداً لماذا كان الظرف الحالي ملائماً جداً لتصفية هويتنا وآخر معاقلنا في القدس، لإعلان الهزيمة المطلقة لنا ولفرض قبول الأمر الواقع باعتباره "الصفقة" النهائية".
قمة اسطنبول بتمثيلها الهزيل، وخطابها عالي البلاغة منخفض القيمة، وبنتائجها الرمزية التي بالكاد تحافظ على الحد الأدنى وهو الرفض الخجول للقرار الأمريكي وإعلان شطرٍ من القدس عاصمةً لدولة فلسطين المعنوية هي الأخرى؛ جاءت هذه القمة لتعلن موت التعويل على دولة ما بعد الاستعمار لكل من كان لديه عقل. بعد كل هذا؛ من ينتظر شيئاً من هناك فليتفحص قدراته العقلية والإدراكية.
ما هو المخرج إذن؟! هل ننتحر؟! المخرج رسمه المسار التاريخي الأول الذي نأبى أن نراه ونواصل تعويلنا على دولة ما بعد الاستعمار وعلى إصلاحها، وأعاد رسمه بوضوح ناصع نصر باب الأسباط الذي وضع الكيان الاستعماري الصهيوني أمام قوة الجمهور حتى النهاية بلا وساطة، فاضطر هذا الاستعمار إلى التراجع دون قيدٍ أو شرط، وها هو منذ شهور يحاول التهويل على الجمهور وإقناعه بأن نصره خالٍ من المضمون، لأن وعي هذه الجماهير بقدرتها على تحقيق النصر يعني للكيان الصهيوني حتفه المباشر.
المخرج هو في أن نتوقف عن الحراك المطلبي الذي يقوم على منطق تفويض قوة شارع لدولة ما بعد الاستعمار لتأتي بنتائج أفضل، لأنها بدورها تفشل دوماً في ذلك فيتحول الغضب الشعبي ضد الاستعمار الصهيوني والأمريكي إحباطاً ورغبةً في التغيير الداخلي، فينفجر في وجه النظام الحاكم ولا ينفجر في وجه العدو الأصيل: الصهيونية والاستعمار الغربي. المخرج هو أن نؤمن بمنطق ساحة باب العامود، وبقرار ساحة باب الأسباط، وأن نأخذ الحرك الفلسطيني إلى صناعة الحقائق بيديه، وأن نأخذ الحراك العربي إلى دعمه والوقوف معه وإلى بناء حقائق عدائه للصهيونية ومقاطعته للولايات المتحدة بيديه. المخرج أن نؤمن بقوة الميدان الفعلية، لا أن نكتفي بقوته المطلبية، وأن نفتح أدوات وآفاق الوصول لذلك، فهذا الطريق لن يفضي إلا إلى نصرٍ أو صمودٍ مشرّف إن نحن سلكناه.