نقل السفارة الأمريكية إلى القدس يقصد منح شرعية دولية للاحتلال الصهيوني لهذه المدينة، ولضم مركزها الديني والتاريخي لما يسمى ب- "السيادة الإسرائيلية". رغم مرور٥٠ عاماً على هذين العدوانين إلا أن كل قرارات مجلس الأمن والجمعية العمومية واليونيسكو وسائر الدول الكبرى ما تزال تعتبر المدينة تحت احتلال عسكري، لا يملك الحق الأصيل فيها ولا يملك التصرف بهوية المدينة.
هذا الإخفاق في إضفاء المشروعية عائد إلى سببين: وجود غالبية دولية من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ترفض هذا الاحتلال ولا ترى في قبوله مصلحة لها، وعدم تطابق مصالح المراكز الاستعمارية الغربية مع المصلحة الصهيونية بفرض طابع يهودي على المدينة -وإن كانت تتطابق معها في محاولة طمس الهوية العربية الإسلامية فيها تحديداً.
لكسر هذه العزلة، عولت النخبة السياسية الصهيونية على تحويل موقف قطب العالم الأوحد في حينه من خارج إطار الأمم المتحدة، فانتزعت قرار مجلس الشيوخ لنقل السفارة عام ١٩٩٥ باعتبار عملية السلام قد بدأت، لكن الرؤساء الأمريكيين حافظوا على تأجيل تنفيذه بأوامر مؤقتة متتالية، إلى أن جاء ترامب ووعد بنقل السفارة وحاول تطبيق وعده في بداية ولايته، ثم عاد للمحاولة الآن مع موعد تجديد قرار تأجيل النقل.
كيف نواجه هذا القرار؟ نتحدث هنا على المستوى الشعبي؛ إذ أن النظام الرسمي العربي بما فيه سلطة أوسلو قد وضع كل سلوكه تحت السقف الأمريكي، فليس له إلا "مطالبة" الولايات المتحدة بأن تتعطف عليه ولا تقوم بهذه الخطوة التي تمعن في تقويض مشروعيته الشعبية، وهذه مشكلته، وليمضِ في رفع العرائض واستجداء المسؤولين الأمريكان كما شاء، لكنهم في النهاية سيقررون انطلاقاً من مصالحهم كمركز استعماري، ومن قراءتهم لميزان القوى الذي يقول بأن النظام الرسمي العربي لن يستخدم أية ورقة قوة مؤذية ضدهم، في مقابل رغبتهم في استدامته كنظام تابع على الكفة الأخرى.
على المستوى الشعبي؛ فإن بأيدينا أكبر بكثير: إفراغ هذا القرار من مضمونه؛ إذا كان الصهاينة يتطلعون إلى مشروعية أمريكية تعزز وجودهم في القدس فالرد المناسب هو مواجهة ميدانية شعبية واسعة النطاق تؤكد بأن هذا الوجود سيضرب ويتقوض عوض أن يتعزز، بأيدينا أن نفرض رداً يقول بأن قرار السيادة على القدس لا يُحسم في البيت الأبيض، إنما يحسم على تلال القدس وجبالها، وبين أحيائها وأزقتها.
لا شك أن لقرار الولايات المتحدة أثرٌ كقوة كبرى، لكن لا شك أيضاً أنها ليست إلهاً، وأن قرارها ليست قدراً نافذاً، وأن مواجهة قرارها بقصد إفشاله على أرضنا وفوق ترابنا هو خيارنا الوحيد الصحيح، وأن استجداء "السيد الأبيض" هو أسوأ خياراتنا لأنه يعزز في وعينا ووجداننا بأنه سيد بيننا وبينه علاقة طلب واستجداء واستعطاف، بينما في الحقيقة هو الراعي الأساس للمشروع الصهيوني وعلاقتنا به هي علاقة مواجهة وإفشال.
لا بد ونحن نمضي في هذا الخيار أن نعززه بقراءة دقيقة للساحة الدولية: فالولايات المتحدة تتراجع من موقع السيد الأوحد وتترك في العالم فراغاً كبيراً سدت روسيا والصين جزءاً منه، وتغتنم القوى الكبرى في كل إقليم مساحتها منه كذلك كما تفعل إيران وتركيا في منطقتنا، وكما تفعل البرازيل في أمريكا الجنوبية، أو كوريا الشمالية في جنوب شرق آسيا. نحن متجهون إذن إلى عالم متعدد الأقطاب، فيه مساحات رخوة، ليست فيه هيمنة مطلقة لقطب أو قطبين، هو عالم يمكن أن تتاح لنا فيه مساحة مناورة كبرى إن نحن أحسنّا القراءة والعمل، بعيداً عن بؤس السلطة والنظام الرسمي العربي الذي لا "يبيض" إلا في السلة الأمريكية.
وإذا كانت الساحة الإقليمية محكومة بالفوضى وانهيار دول عربية مركزية، وبتوجّه دول أخرى إلى التطبيع مع الصهاينة لإنجاح عمليات نقل السلطة فيها أو لتعزيز موقعها في مواجهة إقليمية مقلوبة المنطق؛ فإن علينا أن نتذكر جيداً أن هذا الوضع لم يمنع نصر باب الأسباط قبل شهور أربعة، وأن نتذكر أن المهرولين نحو التطبيع هم أنفسهم تسابقوا لركوب موجة هذا النصر، وأن نتذكر أن هذا الوضع الإقليمي رغم مبالغتنا في الشكوى منه لم يمنع تشكل معادلة نصر جديدة: مقاومة فردية تعرف وجهتها، تفاعل شعبي واسع يحسن توظيف قوة العدد، ومحيط شعبي داعم ومتفاعل... وهذه هي معادلة المرحلة.