حالة من القلق والانتظار والترقب المشوب بمخاوف كبيرة تعصف بنا منذ وقت طويل، تتعزز بإحساس وشعور أننا نلج مرحلة من الضياع وفقدان التوازن، فضلًا عن الإحباط الذي بات يغلف كل شيء حولنا، وكنا سابقًا - ومن باب تعزيز الصمود الداخلي بعد ان نعجز عن التصدي والتغيير - نعتمد على ان مجرد وجودنا كفيل بحمايتنا من كل المشاريع المهددة، وكنا نتجاهل ثمن التراجع وعبثية سياساتنا، وكأن فاتورة الحساب لن تأتي أبدًا، ونسينا في غمرة غرقنا بالتفاصيل ان الحصاد هو في النهاية ثمرة مدخلات الحقل، وكما يوجد حصاد حلو ثمة حصاد مر.
وللأسف فإن ما نشهده بيننا ومن حولنا، من حاضر ومن مستقبل قريب، ليس سوى حصاد مر، وهو ثمرة ما زرعناه، ولا يجب ان نكتفي فقط باتهام الآخرين بالتآمر لنجد مبررًا للتهرب من تحمل المسؤولية.
أحداث جسيمة تعصف بنا أشبه بزلزال تدميري، عميق، متعدد الطبقات، متواصل، لا يعرف قرارًا ولا حدودًا، يركب على أجنحة قوية من العبثية والجنون المنفلت بلا منطق، يسحقنا ويأخذنا نحو المزيد من التفكك؛ فـ"إسرائيل" تغرس أنياب استيطانها بجرأة ووقاحة في القدس وفيما تبقى من أراضي الضفة، وتغلق بابها في وجه أي شكل من أشكال التسوية، وتعربد في سوريا مهددة بعدوان كبير، وتستعرض عضلاتها على غزة مهددة، وتنتظر ما سيحمله خطاب ترامب المتوقع يوم الأربعاء، وهو ما تعتبره استحقاقًا طال انتظاره، ونحن كفلسطينيين وعرب في غمرة كل ذلك ننشغل بصراعات داخلية مجنونة يغيب عنها أي شعور بالمسؤولية أو بخطورة المرحلة، مكتفين بنوع من فزعة التصريحات أو الحد الأدنى من الواجب المعنوي، تظاهرة هنا وبيان هناك وهاشتاغ يتصدر الصفحات العربية، ونعود لنكمل حروبنا.
نقل السفارة الأمريكية إلى القدس أو اعتراف أمريكا بالقدس كعاصمة لـ"إسرائيل" وتأجيل نقل السفارة أو أي سيناريو آخر يحمل ذات المضمون لكنه يغلف بما يجعله أقل وطأة على المتلقي العربي أو يقدم لبعض المتذاكين مداخل تخفف من مخاطره؛ شكّل مشروعًا وبرنامجًا وخطة لكل من نتنياهو وترامب منذ دخول الأخير إلى البيت الأبيض، مشروع وخطة عمل مستمرة تقوم في البداية على الترويج للفكرة وجس النبض وتهيئة الرأي العام الرسمي والشعبي، الغربي والعربي. ولكي يأتي القرار في ظروف أقل عدائية من ناحيتهم، وفي ظروف تكون فيه الطفايات وعوامل وأدوات التبريد والاحتواء أكثر فعالية؛ ربما كان الحديث عن الصفقة التي تطوع العرب لتعظيمها وتفخيمها، وأطلقوا عليها "صفقة القرن"، حتى قبل ان يعرفوا بخطوطها العامة.
ومنذ أن سربت المصادر الأمريكية -التي وصفت بأنها تشغل مكانًا رفيع المستوى داخل البيت الأبيض- أمر خطاب ترامب الأربعاء المقبل، وما سيحمله من اعتراف بالقدس كعاصمة لـ"إسرائيل"؛ فإن الجسد العربي المسجى في الإنعاش لم يبدِ أي ردود فعل سوى تلك التي تقول بأنه لا زال على قيد الحياة، ومعظم الحراك على هذا الصعيد يتم في السر بعيدًا عن العلن، وبلغة يغلب عليها التوسل والمناشدة وطلب مراعاة ظروف الحكام ومناشدة بعض "الأصدقاء" المتنفذين في السياسات الأمريكية لإيضاح عمق مخاطر التحدي لاستقرار بعض أنظمة الحكم لسيد البيت الأبيض.
وحتى تجاوب ترامب مع هذه المناشدات فعدل عمّا سرب أنه ينوي القيام به أو عدل عليه، فإن كثيرًا من الضرر قد وقع في شكل التسليم النفسي والسياسي وتوقعه مستقبلًا وعدم رؤيته كأمر خطير وانقلاب كبير يستدعي ردة فعل كبرى بحجم خطورة الموقف، وما لن يحدث اليوم سيحدث غدًا طالما بقينا على ذات الحال، ولأننا في حقيقة الأمر لن نبقى على ما نحن عليه لأن التدمير الذاتي يأخذنا إلى ما هو أسوأ وأكثر انحدارًا، ولأن شهية عدونا وأطماعه وقوته في تزايد؛ فمن الراجح ان الموقف الأمريكي والسياسات الأمريكية ستغدو أكثر قبحًا وتجرؤًا.
ثمة من يقول بأن بعض الصدمات الكبرى تنطوي على مفعول علاجي، فتعيد الذاكرة لمن فقدها وتيقظ من غرق في الأوهام وتفجر طاقات أدمنت السبوت، ومع ان تجربتنا تؤكد أن لا شيء من الصدمات مهما كانت قوية ومزلزلة يمكنه ان يوقظنا ويعيد ضبط بوصلتنا؛ فإننا لا يجب أن نعدم الأمل ونسمح للإحباط واليأس ان ينتصر علينا، وكما يقال فرُب ضارة نافعة، فالموقف الأمريكي الذي على مدار عقود تلاعب بنا وفرض تنازلات وشروط، وكان له حضور قوي على سياقاتنا السياسية، ونجح في خداع البعض وباعهم الأوهام، فإنه في حال انكشاف قبحه وانحيازه الكلي لإسرائيل وتنكره لمعايير الحد الأدنى للرعاية التسووية؛ فإنه يساعدنا في رؤية الأمور على حقيقتها، ويخلصنا من مراهنات واشتراطات أثقلت علينا، صحيحٌ أننا سنعاني على كل المستويات، لكن ليس أفضل من المعاناة مدرسة لإنتاج عوامل الانتصار وامتلاك أداوت التحدي والقدرة على فرض المواقف.
كما ان أمريكا ترامب بهذا الموقف المحتمل، وبمواقف أخرى مجنونة مشابهة على مستوى عالمي، سواء فيما يتعلق بحرية التجارة العالمية واتفاقيات المناخ والحريات، وتنكرها لاتفاقيات دولية، وخروجها الفظ على الناموس العالمي؛ يجعل منها أقل قدرة في التأثير على العالم، وفي محل تقدير أقل بما يفتح المجال أمام تحديها وعدم رؤية قراراتها المجنونة قدرًا يجب الامتثال له.