مقدمة عامة
إن التواطؤ مع الأجنبي ضد مصالح وطن أو شعب يرتبط منذ القدم بظاهرة أعم هي الفتوحات. فقد واجه الفاتحون حاجة ماسة إلى أعوان من الأقاليم التي تستهدفها نشاطاتهم التوسعية لتأمين غايتين متكاملتين في الغالب: تسهيل اجتياح الإقليم-الهدف، وذلك باستثمار جزء من القوى المحلية لمصلحة الفاتح، وهو الجزء الذي يكون في وسع العميل تسخيره لهذا الغرض، وإدامة السيطرة على الإقليم المحتل بجعل العميل واجهة أهلية للحكم الأجنبي.
يفترض هذا التكتيك مستوى معيناً من الدهاء إلى جانب القوة العسكرية، لذلك لا نعثر لهُ على أمثلة واضحة في الفتوحات المبكرة للساميين أو الصينيين أو الفراعنة، حيث الفتح مرتكز على العنجهية الحربية لقبائل وشعوب كانت منطلقة للتو من حالة الهمجية. إن أقدم تطبيق لهذا التكتيك قد لا يتجاوز تاريخ الفرس الأخمينيين في غضون النصف الأول من القرن السادس قبل الميلاد. ويحتفظ تاريخ الفتح الأخميني لبلاد الإغريق بأسماء يونانية تعاونت مع الفرس منهم كليسثينس وهيباس، وكان الأول قد تزعم ثورة ديمقراطية للطبقة الوسطى، لكن ظهور الفرس كقوة كبرى حملهُ على الاتصال بهم عارضاً عليهم الاستسلام مقابل تنصيبهُ حاكماً مستبداً، حيث قرر التخلي عن مبادئه الأولى. وهو مـا فعلهُ أيضاً هيباس الذي كان حاكما مستبداً لاتيكاً. وقد لعبت المصالح الطبقية في هذه المساومات شوطا ملحوظاً، إذ يشير جورج تومبسون، الماركسي البريطاني الشهير، في كتابه (أسخيلوس وأثينا) إلى أن العديد من الإسبارطيين كانوا يفضلون تسليم الديمقراطية الأثينية للفرس، مما يفسر مماطلتهم في إغاثة أثينا ضد الغزو الأخميني. واتخذ نفس الموقف حكام طيبة الأرستقراطيون، الذين ساندوا الغزاة.
ويؤخذ من استقصاء سياسات المدن اليونانية في أثناء الفتح الأخميني أن أعوان الفرس كانوا إمـا أرستقراطيين وإمـا تجاراً، أو على الأقل من المعادين للديمقراطية كما هو حال أهل إسبارطة (الاشتراكيين). ويقدم لنا ذلك دليلاً مبكراً على أن الاصطدام بين المصالح الطبقية للمستغلين ومصالح الوطن العليا غالباً ما يسفر عن التضحية بالثانية لحساب الأولى. وتكمن في هذه الحقيقية أصول الخيانة القومية، كما يتحدد طبقاً لها مصدر الخيانة، أي الجهة المؤهلة دومـاً لتمثيل دور العمالة للأجنبي.
عرف تاريخ الفتوحات اللاحقة أمثلة عديدة من هذا الطراز. وفي الكثير من الحالات كان الاعتماد على شخص محلي يتولى السلطة في الإقليم المحتل نيابة عن الفاتحين هو الشكل السائد للعمالة. هذا حين يرى الفاتح أن حكمه السافر قد يثير ارتكاسات لا قبل لهُ بها. وتساعد هذه الخطة على إدامة الاحتلال أمداً أطول بالنظر إلى عدة عوامل منها: صلة القرابة بين الطاغية المحلي وشعبه. إذ أن هذه الصلة لا تساعد كثيراً على تأليب الشعب ضده، خلافاً لما لو كان يجابه حكماً أجنبياً سافراً. كما يستفيد الفاتح من نائبه المحلي في كسب أو تحييد قطاعات من الشعب ليس فقط تحت تأثير صلة القربى، وإنما أيضاً بسبب المصالح الطبقية التي يمكن أن تجمع حوله فئات اجتماعية تنتمي إلى نفس الأصل القومي.
يضاف إلى ذلك أن الطاغية المحلي يعرف أوضاع شعبه ووطنه أكثر من سيده الأجنبي. وهو لذلك أقدر منه على معالجة شؤون الحكم وتوطيده، ولا يجب أن يغيب عن البال مرة أخرى أن مثل هذا التكتيك لم يكن واسع الانتشار لأنه يفترض من جهة تطوراً في الدهاء لا تحتمله الإمبراطوريات القديمة كما قلنا، ومن جهة أخرى تماسكاً قومياً لم تعرفه إلا العصور الحديثة.
هناك صنف من العمالة يدخل في باب الولاء الذي من الغالب أن تفرضه إمبراطورية عاتية على حكام ضعاف. يكون الحاكم من هذا الصنف تابعاً للإمبراطورية ملزماً بتقديم الخدمات التي تقتضيها مصالحها العسكرية والسياسية والاقتصادية، في مقابل حمايتها لعرشه. إن هذه الطريقة شائعة جداً في تاريخ السياسة بحيث يندر أن تتربع إمبراطورية على عرش السيادة والسطوة دون أن تتحلق حولها مجموعة من الممالك التابعة. وتعيش هذه الممالك تحت طائلة التهديد بالاجتياح لدى أية بادرة للخروج على شروط الولاء، بينما يعطي ضعف الإمبراطورية أو هزيمتها في حرب فرصة التمرد للتابع الذي قد يندفع، تحت تأثير نزعة شخصية، إلى الاستقلال عن سيده، وقد يرتمي في أحضان الدولة الغالبة متحولاً عن ولائه السابق.
مرتكز العمالة هنا هو عدم التكافؤ في القوة. ومن المعتاد لذلك أن يكون طرفاه دولة قوية - إمبراطورية، ومملكة صغيرة لا تقوى على مجابهتها فتقدم لها الخضوع ويصير حاكمها تابعاً .. على أن المصلحة الشخصية للحاكم غالباً ما تحصل في ظل الولاء على شروط الضامنة لها، من حيث بقائه في الحكم واستحواذه على نصيب من المكاسب التي يوفرها الإقليم التابع لأسياده. ويشكل ذلك عاملاً على إدامة الولاء بقدر معين من الطوع. لكن عامل القهر لا يبرح كامناً رغم ذلك.
وكثيراً ما ينشأ عنه شعور بالغبن والظلم لدى التابع القديم الذي يمثل الطرف المغلوب في هذه العلاقة. وهو مرتكس طبيعي في النفس البشرية يحتفظ المغلوب تحت تأثيره ببعض الأصالة في شخصيته إلى المستوى الذي يمنع ذوبانها في شخصية السيد. وتكمن هنا نزعة الاستقلال الخفية التي قد تنشر مع أول بادرة ضعف تصيب الطرف الغالب. قد يكون لهذا العامل أثره في تقييد اندفاع التابع في خدمة مصالح السيد، والحيلولة دون تماديه في الاستجابة لرغباتهِ. وهكذا تظل شخصية التابع القديم في كثير من الحالات متمايزة بعض الشيء عن شخصية السيد، على الأقل في حدود إقليمه، ما لم يصبح الإقليم نفسه دولة سائدة أو إمبراطورية .. وقد شهد العالم القديم تقلبات كبيرة من هذا الطراز.
* * *
أوردت المصادر العربية حكاية حول سقوط مدينة الحضر على يد الملك الساساني سابور الأول ملخصها أن (النضيرة بنت الضيزن) ملك الحضر خرجت إلى ربض المدينة المحاصرة، أي ميدانها العام، فرآها سابور ورأته، وكان كلاهما في غاية الحسن، فراسلتهُ سراً تعرض عليه تسهيل فتح المدينة لقاء الزواج منها. وقد دلّته على ثغرة، وفي رواية أنها عرّفته بطلسم المدينة، ففتحها وقتل الملك ثم وفى للأميرة الخائنة فتزوجها. وقد تضمنت الحكاية جزاء العمالة على النحو التالي:
لما أعرس سابور بالنضيرة لم تزل ليلتها تتضور ولا تستطيع النوم، فالتمس السبب في ذلك فإذا وريقة آس ملتصقة بأحد أجزاء بطنها، وإذ دهش سابور من رقة جلدها وعدم تحمله وريقة آس، سألها: ما كان يغذوك به أبوك؟ فقالت بالزبد والمخ وشهد الأبكار من النحل وصفو الخمر. وقد أثارت بهذا الوصف شعوره بفداحة الجريمة التي ارتكبتها بحق والدها، فأمر بربط ظفائرها بفرس جموح ثم استركضها فتقطعت إربـاً.
قد تكون هذه الحكاية صحيحة إذا نقيت من التوابل، فالقيم الأخلاقية للملوك وأولادهم لا تتعارض مع هذا السلوك. وهي مع جواز ترجيحها أقدم نموذج للعمالة في تاريخ العرب.
على أن لدينا نموذجاً آخر أكثر شهرة تمثله قصة أبي رغال. وكان هذا رجلاً من ثقيف تطوّع ليدلّ أبرهة الحبشي على الطريق المؤدي إلى مكة في حملته المشهورة عليها. وكان أبو رغال قد توفي أثناء الحملة. وبعد انسحاب أبرهة، بنـى العرب على قبره الواقع في منـى على مقربة من الكعبة نصبـاً أخذوا يرجمونه كل عام في موسم الحج. ورجم أبي رغال هو رجم للعمالة المتمثلة في شخصه. هذه الحكاية مقبولة على العموم لأن قبر أبي رغال بقي معروفاً إلى أمد غير قصير بعد الإسلام وقد وردت الإشارة إليه في شعر هجا به جرير الفرزدق جاء فيه:
إذا مـات الفرزدق فارجموه كرجم الناس قبر أبي رغال
لكن بمرور الزمن طمست حكاية أبي رغال واستبدل المسلمون برجمهِ رجم أنصاب تمثل الشياطين. ولا أدري لعل لملوك المسلمين يداً في هذا الطمس إذ من المسلم به أن رجم الشيطان أهون على الملك من رجم عميل أو خائن .. على أية حال ، فإن أبا رغال هو من أوائل العملاء في تاريخ العرب. أمـا صنف عمالته فهو (عسكري) ودورها يتحدد في خدمة الأغراض الحربية لجيش احتلال. عرف تاريخ العرب صنفاً آخر من العمالة يمكن وضعه على ملاك الدول التابعة للإمبراطوريات الكبرى. وهو يتمثل أساساً في دولتي الغساسنة والمناذرة.
الغساسنة
أنشئت هذه السلالة بمساعدة من بيزنطيا، ومؤسسوها من قبيلة الأزد اليمنية وهم آل جفنة الذي يقال أنه مؤسس السلالة. كان مقرها الجابية، من قرى الجولان، وشملت رقعة الحدود الجنوب شرقية لبلاد الشام. وكان هذا البطن من الأزد قد هاجر إلى جنوبي سوريا الخاضعة للحكم البيزنطي، وشاركوا هناك في حروب البيزنطي فأنعم عليهم هؤلاء بالألقاب والمكافآت. وإذ توطدت حالة الولاء بين الطرفين رأى البيزنطيون إمكان الاستفادة من آل جفنة في مجالات أوسع فأنشأوا لهم دولة ضمنت المناطق المذكورة. إن موقع الدولة الغسانية يشير إلى الغرض الاستراتيجي الذي توختهُ بيزنطيا من إنشائها، ذلك أن الحدود الشرقية لسوريا كانت على الدوام عرضة لهجمات القبائل العربية في بادية الشام. ولم يكن لدى الرومان من المكنة مـا يكفي لمجابهة هذه الهجمات المستمرة، والمدعومة أحياناً من الساسانيين ووكلائهم في الحيرة. وقد اعتبرت دولة الغساسنة من طراز الدول الحاجزة لأنها تقع على النطاق الفاصل بين منطقتي النفوذ الساسانية والبيزنطية.
قامت هذه الدولة بمهامها، كدولة تابعة، في إسناد المشاريع الحربية للرومان وشاركت في حروبهم ضد الساسانيين والمناذرة كما استخدموها لكبح جماح القبائل العربية وبسط نفوذهم عليها. وكان الرومان هم المسيرين الفعليين لسياسة الغساسنة، وقد تدخلوا في تعيين ملوكهم في حالات اختلال ولاية العهد، أو لاستبعاد من يشكون في ولائهم. وكانت الدولة تحصل على إعانة سنوية من بيزنطيا، على غرار الإعانة التي كان يتلقاها شرق الأردن من بريطانيا والتي حلت محلها الآن إعانة من بعض الدول التابعة.
استمر الغساسنة طوال القرن السادس للميلاد. ثم طرأ خلاف مع القسطنطينية أدى إلى سحب حمايتها لهم وقطع الإعانة المالية فلجأ الغساسنة إلى الصحراء وصاروا يشنون الغارات على حدود أسيادهم الذين ردوا عليهم بحملة استئصال عام 584م، إلا أن البيزنطيين عادوا فعينوا ملكاً غسانياً جديداً حيث أعيد تشكيل السلالة لعجزهم عن ضبط الأمن في تلك الأنحاء. وقد استمر الحكم الغساني بعد ذلك في صيغ باهتة حتى الفتح الإسلامي.
وأثبت الغساسنة ولاءهم للرومان بانضمامهم إلى الجيش البيزنطي في حربه ضدّ العرب المسلمين الذين غزوا بلاد الشام في خلافة أبي بكـر. وبعد هزيمة البيزنطيين استسلم آخر ملوكهم جبلة بن الأيهم الذي اعتنق الإسلام ووفد على عمر بن الخطاب.
وكان للرابطة القومية أثرها في موقف الملك الغساني، إذ كان في وسع جبلة أن يلتحق بالقسطنطينية. ويبدو مع ذلك أنه كان يتوقع المحافظة على مركز معين في غضون علاقته الجديدة، خاصة وأن عمر بن الخطاب لم يضع قيداً على الملكية الخاصة أو الشخصية، لولا أن يصطدم بمعضلة المساواة التي يمنحها الدين الجديد لأتباعه بصرف النظر عن مركزهم الطبقي. وقد حملهُ ذلك على الارتداد بسبب حادثة اللطمة المشهورة مضحياً بالاعتبارات القومية لصالح وضعه الطبقي. وقد مات جبلة لاجئـاً بالقسطنطينية.
المناذرة
جماعة من قبيلة تنوخ اليمنية، هاجرت إلى الفرات الأوسط وأقامت لها كياناً تطوّر فيما بعد إلى دولة. وقد صادف ذلك آخر أيام الفرثيين في العراق مما ساعد المناذرة على توطيد أوضاعهم في معزل عن الدول الكبرى. إلا أن ظهور الساسانيين وضع الدولة الناشئة أمام خيارين: مصير الحضر أو الارتماء في أحضان الإمبراطورية الجديدة.
وقد اختار جذيمة بن الأبرش، الذي قد يكون ثالث ملوك السلالة، الخيار الثاني، فوضع دولته في حماية الساسانيين لضمان مستقبلها. وقد استمرت دولة المناذرة ما يزيد على الثلاثة قرون مارست فيها دور العميل للإمبراطورية الساسانية. وفي زمن النعمان الأول، أوائل القرن الخامس، كانت هناك حامية فارسية تقيم في الحيرة، عاصمة المناذرة، قوامها ألف جندي يبدو أنها أرسلت لتعزيز سطوة النعمان على القبائل العربية. ويندرج هذا الإجراء في ملاك المساعدة العسكرية التي تقدمها الدولة السيدة للتابعة، على النحو المعروف في الإمبراطوريات الحديثة، اعتادت على وضع حاميات أو قواعد عسكرية في بعض الدول التي يديرها عملاؤها.
إن تبعية الغساسنة والمناذرة لإمبراطوريتين متخاصمتين أوقع الخصام فيما بينهما. إذ هبت كل من الدولتين تحارب الأخرى على انفراد أو على سبيل المشاركة في حروب الإمبراطوريتين. ولم يمنع من استمرار حالة الحرب انتماء الدولتين إلى دين واحد هو المسيحية، التي لم تكن بدورها حائلاً دون عمالة المناذرة لإمبراطورية الساسانيين الوثينة. ومثلما تراجعت الاعتبارات الدينية لحساب التناقض في المصالح، تراجعت الروابط القومية. وكما نعلم فالمناذرة والغساسنة عرب لكن ذلك لم يمنعهما من التخاصم كما لم يحل دون ارتمائهما في أحضان الأجانب.
على أن تاريخ الدولتين يزودنا ببعض الدلالات المهمة في صدد علاقاتهما بأسيادهما. لقد ذكرنا سالفاً أن عامل القهر الذي تعانيه الدول الصغيرة يخلق شعوراً كامناً بالغبن يمكن أن يظهر في حالات معينة على شكل نزعة مستقلة، مقترناً ذلك، كما قلنا، باحتفاظ شخصية التابع بنسبة من الأصالة تمنع انصهارها في شخصية السيد. ونأتي إلى الدولتين العربيتين فنلاحظ تعرجاً في سياستهما الخارجية تجسده حالات الخصومة التي وقعت بين الغساسنة وأسيادهم الرومان، وبين المناذرة وأسيادهم الفرس. فقد اختلف المنذر بن الحارث الغساني مع القسطنطينية واتخذ الخلاف شكلاً دينياً تمثل في تأييد المنذر لليعاقبة الخارجين على تعاليم بيزنطيا.
وفي مجرى هذا الخلاف دبر البيزنطيون مؤامرة لاغتيال المنذر أدى افتضاحها إلى إعلان العصيان ضدهم. وبسبب عجز البيزنطيين عن قمع العصيان، خاصة بعد أن أغتنم المناذرة الفرصة فهاجموا أطراف الشام، سعوا إلى استرضاء المنذر ودعوته من ثم لزيارة القسطنطينية، حيث أنعم عليه الإمبراطور تيباروس بالتاج، وهو تكريم لم يحظ بهِ أحد من أتباعهم العرب قبله. إلا أن حالة الوفاق لم تستمر وأدى عدم ثقة البيزنطيين بالمنذر إلى تدبير مؤامرة أخرى انتهت بالقبض عليهِ ونفيهِ إلى صقلية. وقد رافق ذلك إجراء آخر بقطع الإعانة المالية عن دولة الغساسنة. وهنا انسحب خلفاء المنذر إلى البادية للتمركز فيها وشن الغارات منها على الشام. ورغم أن البيزنطيين استطاعوا كبح هذه الغارات وأسر الأمير الغساني النعمان بن المنذر فإنهم اضطروا إلى إعادة السلطة إلى الغساسنة فعينوا ملكاً جديداً من آل جفنة. وكان هذا الملك وخلفاؤه ضعافاً فاستمروا في خدمة السياسة البيزنطية حتى الفتح الإسلامي.
أما المناذرة فكانوا أقل استقلالاً من زملائهم في الشام. فقد واصلوا، باستقامة، خدماتهم للساسانيين في الصراع ضدّ بيزنطيا وعملائها الغساسنة من جهة، وضد القبائل العربية من الجهة الأخرى. ويبدو مع هذا أن ظهور مخايل الضعف على دولة الأكاسرة أثار لدى آخر ملوك الحيرة نزوعاً إلى الاستقلال. إذ يورد أبو حنيفة الدينوري حديثاً على لسان كسرى أبرويز يعكس تخوفه من نوايا النعمان بن المنذر - أبو قابوس (1)، مع الإشارة إلى إرهاصات نهوض عربي شامل ضد تسلط الساسانيين.
وربما ألقت حكاية عدي بن زيد التي رويت في الأغاني ضوءاً على الملابسات التي انتهت بالقضاء على دويلة الحيرة. إن عدي بن زيد من شعراء الجاهلية المعروفين، وكان مسيحياً خلاف غالبية زملائه الذين كانوا على الشرك. وقد اشتغل أولاً في ديوان كسرى وترقى به الحال حتى أصبح من الشخصيات السياسية التي يعتمد عليها الساسانيون في توطيد نفوذهم في الحيرة. وتقول رواية الأغاني أنه سعى لإقرار النعمان بن المنذر ملكاً بعد وفاة والده مستخدماً نفوذه في البلاط الساساني.
لكن النعمان تنكّر له فيما بعد، ويحتمل أن تكون لذلك صلة بنوايا الأخير الاستقلالية التي كان لا بد لها أن تصطدم باتجاهات عدي بن زيد. وانتهى الأمر بحبس الشاعر العميل في الحيرة. وقد أثار هذا الإجراء كسرى فكتب إلى النعمان يأمره بإطلاق عدي من السجن، لكن النعمان قتلهُ قبل أن تبلغهُ الرسالة. ولكن يبرئ ساحته من التحدي المقصود لأمر الإمبراطور أعتذر لقتله لعدي وأوفد إليه ابنه زيداً موضحاً له أن في مقدوره أن يملأ موضع أبيه لما يتمتع به من كفاءات. فسكت أبرويز على مضض. ولدينا ما يفيد أن زيد بن عدي أخذ يكيد للنعمان عند كسرى، وتربط رواية الأغاني حادثة القبض على النعمان وتصفيته فيما بعد، بمسألة الخطوبة التي أوحى بها زيد لكسرى حيث أقترح على الأخير أن يتقدم لخطبة إحدى بنات النعمان، وكان زيد يتوقع أن يرفض النعمان هذا الطلب جرياً على التقليد البدوي القاضي بعدم تزويج العربية من الأعجمي. وهو ما حدث بالفعل. مما حمل كسرى على استقدامه وإيداعه السجن، وقد انتهى بانتهائه حكم المناذرة. ولا شك في أن أبرويز كان أدهى من أن يضحي بدولة تابعة تشغل موقعاً هاماً في استراتيجية الساسانيين بدوافع عاطفية بحتة. وبالتالي فإذا كان في وسعنا قبول ما تضمنته رواية الأغاني فلا مناص من اعتباره ذريعة للتخلص من تابع ذي ميول خطرة.
تكشف تجربة الغساسنة والمناذرة مع الإمبراطوريتين الكبيرتين الطابع غير المستقر للعلاقة بين العميل القديم وسيده، وهي تزودنا بدليل ملموس على المنحى السيكولوجي الذي اتخذته العمالة، آنذاك، كعلاقة غير متكافئة بين غالب ومغلوب.
بظهور الدولة العربية - المسلمة حدث اتجاه جديد في علاقات العمالة. فقد أصبح الفرد العربي عضواً في مؤسسة سياسية سائدة، أي قوة كبرى، مما يلغي أو يضعف من الشروط المادية والنفسية للعمالة. وإذ أقام العرب دولة أصبحت هي الأقوى في تلك الأصقاع لم تعد هناك ضغوط تفرض على العربي أن يكون عميلاً لدولة أجنبية. ومع الانتقال من الضعف إلى القوة كان منتظراً أن يحلّ مكان الشعور السابق بالغبن والظلم شعور بالسيادة سرعان ما تعاظم مع السياسة الأموية التي قامت على الاستعلاء القومي المعتمد على تنظيرات دينية مطابقة(2). يمكن أن يضاف إلى ذلك أن المزايا الاقتصادية والاجتماعية التي توفرها العمالة في المعتاد صار توفرها ميسوراً في ظل الدولة الجديدة لأولئك الذين تسيرهم هذه الاعتبارات وتخلق لديهم الاستعداد ليكونوا عملاء.
إن استقراء الحوادث منذ ظهور الإسلام في يثرب حتى أمد متقدم من عصر الخلافة العباسية يقودنا إلى هذه النتيجة وهي أن الدول الأجنبية ذات المصلحة في بلاد العرب أصبحت تلقى صعوبة بالغة في الحصول على عميل يخدم سياستها. وفي الحروب التي جرت بين العرب وكل من الساسانيين والبيزنطيين كان معسكر العرب خالياً تماماً من الرتل الخامس، هذا إذا استثنينا الرواية التي تحدثت عن تعاطف أبي سفيان مع الروم في معركة اليرموك(3)، على أن الحرب الأهلية في الإسلام، التي بدأت بمعركة الجمل 36 هجرية ـ هيأت وسطاً مناسباً لظهور صنف آخر من العمالة أستخدمه فريق معين هو في العادة الفريق المالك للثروة والمتمتع بموقع استغلالي متين. يتسم هذا الصنف بميزتين، الأولى أنه يقوم على بعد طبقي خالص مستعد من طبيعة الحرب الأهلية بوصفها الوجه العسكري لصراع الطبقات داخل الأمة الواحدة. وهو بذلك يختلف عن الصنف السابق، الذي يخدم فيه العميل مصالح دولة أجنبية، اختلافاً يمس أطراف العلاقة في كلتا الحالتين تبعاً لما يوضحه الجدول التالي:
العميل السيد
الصنف الأول: تابع محلي دولة أجنبية
الصنف الثاني: تابع محلي حاكم أو قائد محلي
ولا يمتد الاختلاف إلى أسس أو دوافع العمالة لأنها في الحالتين نابعة من المصالح الاقتصادية والاجتماعية لمختلف أطراف العلاقة.
الميزة الثانية لهذا الصنف من العمالة خلوه من عامل القهر، فالعلاقة هي بين طرفين يتفاوتان في موقعهما الاجتماعي وليس بين تابع ضعيف وسيد قوي. ومع غياب هذا العامل تأخذ العمالة شكل علاقة مطواعة بين طرفين مستغلين في نطاق أمة واحدة كما سيتضح في التفاصيل اللاحقة.
ظهر هذا الشكل من العمالة للمرة الأولى في معركة صفين التي كان طرفاها عرب الشام وعرب العراق. ولهذه التجربة خلفية ترجع إلى اختلاف معاملة الأتباع بين الزعيمين المتناحرين علي ومعاوية. فمن المعروف أن فئة أطلق عليها اصطلاح أهل الأثرة أو المستأثرين قد تألفت في غضون الفتح الإسلامي من كبار الصحابة وقادة الفتح وزعماء القبائل، وكانت قد حصلت على مواقع متميزة منذ خلافة عمر بن الخطاب ثم قفزت إلى موقع السلطة والسيطرة في خلافة عثمان أبن عفان مستأثرة بحصة الأسد من عوائد الفتوحات.
ولما استخلف علي بن أبي طالب ألغى الامتيازات المالية والاجتماعية التي كانت تحصل عليها هذه الفئة في السابق، وقد أدّت سياسية علي إلى انضمام أكثر ممثليها علانية إلى المعسكر الأموي في الشام، ألا أن شطراً هاماً منهم بقي في معسكر علي، وإذ اتخذ الصراع بعد انتقال علي إلى العراق طابع مجابهة بين الشاميين والعراقيين فقد صار العراقي بحكم ذلك، طرفاً في المجابهة، بصرف النظر عن موقعه الاجتماعي، مستأثراً أم محروماً. وقد أدى ذلك إلى تعزيز بقايا المستأثرين في معسكر أهل العراق، مما كان يشكل بحد ذاته أرضية صالحة للتواطؤ مع الطرف المستعد لتقديم المال والسطوة والجاه.
ويبدو أن هذا ما استطاع معاوية أن يستغله بدهائه المعروف فينشئ له رتلاً خامساً بين أتباع علي أنيطت به مهمات معينة. وقد كشف تطور الأحداث عن بعض عناصر هذا الرتل، إذ تخبرنا المصادر أن علياً أبلغ عن أشخاص يكاتبون معاوية سراً وأشار عليه أنصاره الخلص أن يعتقلهم، إلا أنه كان يرفض إجراءً كهذا متمسكاً بمبدأ دستوري يقول: "لا حبس على التهمة".
وهناك ما يشير إلى أن النشاطات كانت قد امتدت إلى عدة مجالات يمكن أن نرصد منها مكيدة رفع المصاحف، فقد فوجئ علي في تلك الساعة برهط يقودهم الأشعت بن قيس وشبت بن ربعي، مع رهط آخر من المتدينين كانوا يعرفون بالقراء تحيط به وتدعوه إلى وقف القتال فوراً.
وكانت مقدمة جيش علي بقيادة مالك الأشتر على وشك احتلال مقر قيادة معاوية. وقد رأى علي نفسه أمام تمرد عسكري لا طاقة له به فانصاع للضغط وأصدر أمره إلى الأشتر بالتراجع.
وبهذا حققت العمالة، متضامنة مع التزمت الديني، أول إنجاز كبير لها في تحويل مجرى الأحداث، إذ أنقذت الأمويين من انهيار محتم. واستثمر الأشعت ورهطه هذا النصر فبرزوا كمدافعين عن السلم بين المسلمين وانتزعوا من علي الموافقة على التحكيم ثم فرضوا عليه اختيار أبي موسى الأشعري ممثلاً له مستغلين مكانته الدينية كصحابي كبير. وكان أبو موسى منحرفاً عن علي بفضل الامتيازات التي كان يتمتع بها زمن عثمان. يستفاد من المصادر عن علي، بفضل الامتيازات التي كان يتمتع بها زمن عثمان.
يستفاد من المصادر أيضاً أن عملاء معاوية شاركوا أولاً في انشقاق الخوارج ثم سعوا إلى توسيع الشقة بين علي وبينهم - أي الخوارج- خدمة لأهداف معاوية الإستراتيجية. وبذلوا مساعي حثيثة لدفع علي إلى مقاتلة الخوارج بدلاً من أهل الشام. ومن المثير للانتباه أن بعض الزعماء المتحمسين لوقف القتال في صفين ممن كان يشملهم وصف الخوارج أصبحوا يتحمسون لمقابلة الخوارج فيما بعد، بحيث لا يبقى من المنشقين الأصليين غير القراء، الذين انشقوا تحت تأثير ديني.
هكذا قام العملاء بدور شديد التعقيد: وقف القتال في صفين عندما كان أهل الشام على وشك الانهيار. تكريس الانشقاق الخارجي، ثم نقل الصراع بين علي ومعاوية إلى صراع بين علي والخوارج وجعل الشام في مأمن من هجوم جديد مدة تكفي لتثبيت نفوذ الأمويين وزيادة قوتهم العسكرية.
قام عملاء معاوية في العراق بمهمة أخرى تختص بالتعبئة. نحن نعرف حتى الآن أن أهل العراق كانوا يتقاعدون عن الجهاد ضد معاوية. وكان علي قد شكا من هذا التقاعس بطريقة توحي بإلقاء اللوم فيه على الفرد العادي. وقد استمرت الأجيال تنظر إلى تخاذل أهل العراق من زاوية هذا التصور بمستوى تجسده كناية شعبية مستعملة حتى الآن في عامية العراق تصف أهل العراق بأنهم (أهل البيعة) أي يبايعون القائد ثم يخذلونه. لكن كشف دور العمالة في أحداث تلك الآونة يمكن أن يعطينا تصوراً جديداً. في البدء يمكن أن يلاحظ أن العلاقات القبلية استمرت تحكم سلوك وتوجهات الفرد العادي رغم التمايز الطبقي الذي طفق يحجز منذ أواخر الجاهلية بين العناصر المتنفذة في القبيلة وأفرادها العاديين.
ومن خلال عضوية الفرد في القبيلة كان الشيخ لا يزال قادراً على التحكم في ولائه السياسي، أو على الأقل، في مواقفه الآنية. خاصة على صعيد القتال. وضمن هذا الوضع كان لا يزال ممكناً أن يتحدد اختيار الفرد تبعاً لانتمائه القبلي، كما تتحدد تبعاً لذلك مساهمته في أية الحرب، دون النظر، في الغالب، إلى الغاية من تلك الحرب. إن حماس المقاتل القبلي مرتبط أساساً بالحمية التي يثيرها في المقام الأول انتماؤه للقبيلة، كما تكتسب الحرب عدالتها في نظره، فقط بالاستناد إلى هذا الانتماء(4). قد لا يكون للانتماء القبلي مع هذا تأثير فعال في حالات المجابهة الخارجية، حيث تتجمد التناقضات بين القبائل أمام العدو المشترك. يحدث هذا، خصوصاً، عند مرحلة من حياة الأمة تكون فيها قد استكملت بعض خصائص الوحدة القومية إلى جانب النظام القبلي السائد.
وفي مثال الأمة العربية عند ظهور الإسلام يمكن احتساب هذا العامل، ناظرين إلى ظروف كان العرب قد احتقبوا فيها قسطاً من الوعي القومي إزاء التحديات التي فرضتها عليهم قوى الاحتلال من بيزنطيين وساسانيين وأحباش. وقد خاض العرب حروب الفتح الأولى بوصفهم أمة، تحم ، إلى جانب ذلك الشكل من الوحدة القومية، حافزاً بحجز القبيلة مستمداً من الإسلام.
تحت تأثير هذه العوامل يمكن أن يتراجع الوعي القبلي لمصلحة وعي أعم: ديني أو قومي أو وطني. إلا أن الحرب الأهلية في مجتمع قائم على وحدة القبيلة يمكن أن تعيد الرابطة القبلية إلى قوتها بالنظر إلى أن هذه الحرب تقوم أصلاً على تخطي الاعتبارات المشتركة التي يقترن عجزها عن مقاومة عوامل التشتت الاجتماعي بتفاقم الصراع بين القطاعات المختلفة في المجتمع .
في مثل هذا الوضع لا بد للتعبئة من أن تمر بالقبيلة، لكن مع استثناء يشمل العناصر المنخرطة في الصراع الطبقي، حيث يتحدد الانتماء إلى أن أي من المعسكرين بالموقف الطبقي للفرد. ولدى الرجوع إلى تاريخ الصراع الطبقي في صدر الإسلام نجد أن طرفي الصراع تألف من المستأثرين من مختلف القبائل، والمحرومين من مختلف القبائل أيضاً، لكن هذا الفرز كان يشترط بالنسبة إلى جماهير القبيلة وعياً اجتماعياً قادراً على خلخلة الرابطة بين المتنفذ والفرد العادي، وقد توفر ذلك في حدود معينة ضمن العناصر الطليعية آنذاك، إلا أنه لم يطرد إلى الحد الذي من شأنه إزاحة مركز القبيلة في ميدان الصراع إلى الخط الثاني.
نستطيع أن نخلص من هنا إلى أن التقاعس الذي تحدثت عنه خطب علي أبن أبي طالب كان محكوماً بعامل هام لم تكشف عنه الخطب، إنما تمكن رؤيته في نشاطات الرتل الخامس الذين اشتراهم معاوية من زعماء القبائل في العراق، واضعين بالحسبان حتمية التنسيق بين السيد وعملائه إلى المستوى الذي ينفي عن نشاط العميل صفة المبادرة الفردية الصرفة. وإذ ترتهن إمكانات التعبئة بشروط الانتماء القبلي، فإن جزءاً من التنسيق يمكن أن يكون قد وجه لحجب الأفراد عن تأييد علي والقتال معه مستهدفاً تسديد ضربة إلى نظام التعبئة عند أهل العراق.
وهنا أجد ما يسوغ لي القول إن جهود الرتل الخامس من زعماء القبائل العراقية كانت هي السبب في أن علي أبن أبي طالب لم يستطع في آخر محاولة له لاستئناف القتال ضد معاوية أن يحشد أكثر من ثلاثين ألف مقاتل، بينما كان جيشه يتألف في معركة صفين من ثمانين ألفاً. وقد تعذر عليه حشد هذا الجيش الصغير قبل أن يلجأ، في لحظة يأس وجزع، إلى تطبيق إجراءات تجنيد إجباري حاول بها تكملة القطاع الموالي من المقاتلين. ومن المعروف أن هذه الإجراءات لا تكون فعالة إلا من خلال زعيم القبيلة في المجتمع القبلي، أو صاحب الإقطاع في المجتمع الإقطاعي. ولم يكن المجتمع العربي حينذاك إلا واحداً من هذين.
استخدمت العمالة في حين لاحق لأغراض عسكرية أخرى. ويرجع إلى عبد الملك بن مروان، أقدم تطبيق لتلك الخطة التي تصمم لتحقيق نصر مضمون وسهل في المعارك التي يمتلك فيها الخصم قوة ضاربة. كان ذلك في حربه ضد مصعب بن الزبير. وكان مصعب قد حشد جيشاً ضخماً، ولما التحم الجيشان كانت طليعة مصعب بقيادة إبراهيم بن الأشتر قد تعرضت لضغط شديد من أهل الشام فأمده مصعب بقوة يقودها عتاب بن ورقاء. وما أن أخذت هذه القوة موضعها في ميدان المعركة حتى انهزمت.
ويؤكد الطبري - حوادث 71هـ- - إن الهزيمة كانت مفتعلة لأن عتاب كان قد كاتب عبد الملك على ذلك. وقد نجم عن هذه الهزيمة تشتت الفصائل الضاربة من جيش مصعب ومقتل قائدها إبراهيم بن الأشتر. وحين أوعز مصعب لبقية القادة بالهجوم أحجم أكثرهم، وكما يقول الطبري فإنهم تصرفوا على هذا النحو بناء على مكاتبتهم لعبد الملك. وقد انتهت المعركة بمقتل مصعب واحتلال الكوفة.
إن الهزيمة دون قتال تعطي العدو كما قلنا نصراً سهلاً حيثما كان الطرف المغدور يملك ثقلاً راجحاً. على أن هذا الأسلوب ليس ميسوراً على الدوام لأنهُ يفترض شرطاً مسبقاً هو احتواء معسكر الخصم على الأشراف: ملاكا وزعماء قبائل ومتنفذين. فالأشراف، بحكم طبيعتهم الاجتماعية، يملكون الاستعداد لبيع ولأمر لأي طرف يضمن لهم مصالحهم. وغالباً ما يكون هذا الطرف سلطة قائمة، أو جماعة في طريقها إلى السلطة.
ومن هنا فإن الظرف الملائم لاستخدام العمالة في هذا المجال يتحقق في إحدى حالتين: الصراع بين الجبهات الأرستقراطية نفسها، كما هو الحال في صراع الأمويين والزبيريين، أو العباسيين والأمويين. أما الثانية فهي حالة الحركات المعارضة التي تملك بعداً جماهيرياً، إلا أنها تفتقر إلى فرز طبقي حاسم . وفي الحالة الأولى يكون الأشراف موزعين على المعسكرين ، مما يتيح للمعسكر الأقوى والأغنى شراء العملاء من المعسكر الآخر، مثال ذلك ما فعله عبد الملك في حربه ضد مصعب بن الزبير. وفي الحالة الثانية يفسح الافتقار إلى الفرز الطبقي مكاناً للأشراف في حركة المعارضة التي تسمح أهدافها العريضة بإنشائها من عناصر اجتماعية متضاربة. وهذا هو شأن معظم حركات المعارضة ضد الأمويين وأوائل العباسيين. وتلقي الرواية التالية للطبري ضوءاً على الدور الخطير للأشراف في إجهاض مثل هذه الحركات:
يقول الطبري إن الحسين بن علي لما كان في الطريق إلى كربلاء لقيه شخص يدعى مجمع بن عبد الله العائدي كان قد خرج من الكوفة للالتحاق به. فسأله الحسين عن الوضع هناك فأوجزه مجمعاً بقوله: أمـا أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم بالمال يستمال به ودهم وتطلب به نصيحتهم فهم ألب واحد عليك .. وأمـا سائر الناس بعد فأن قلوبهم معك وسيوفهم غدا مشهورة عليك.
من الجدير بالملاحظة هنا أن حركات التشيع الأولى كانت ترى أن بالإمكان الاستفادة من الأشراف دون إعطائهم الثمن المكافئ لتأييدهم، مستندة إلى القوة المفترضة للعامل الديني. وقد جعلها ذلك ملغومة بالرتل الخامس في معظم الأحيان ونحن واجدون على العكس أن الحركة التي تقوم على استقطاب طبقي حاد يمكنها أن تطمئن إلى نظافة معسكرها.
لماذا لم يتوصل العباسيون مثلا إلى استخدام هذا الشكل من العمالة في حروبهم مع القرامطة والزنج رغم أنها كانت من الحروب النظامية التي يشتبك فيها جيشان متماثلان في القوة؟ إن السر في تقديري يكمن في أن الطبيعة الطبقية لهاتين الحركتين كانت من الشدة والاستقطاب بما حال دون تسلل الأشراف إليهما، أو على الأقل دون أن يكون لهم فيهما نفوذ ضاغط حيثما طرأت حاجة إلى احتواء بعضهم أو إلى التحالف المرهون باعتبارات معينة تضطر الحركة إلى مراعاتها. ومن هنا لم يحدث لمعارك الزنج والقرامطة ما حدث لمعارك الفئات المعارضة التي سبقتهم والتي اصطبغ تاريخها بالاخفاقات الدامية الناتجة أساساً عن هذا العامل الخطر.
مكونات شخصية العميل القديم
بينت أنفاً أن التابع للأجنبي كان يعاني في عصر الإمبراطوريات القديمة شعوراً بالغبن ناجماً عن ضعفهُ تجاه الإمبراطورية. على أن قيامه بمهام العمالة للدولة السيدة يأخذ مجراه المعتاد بفضل الإغراء الذي يوفره الاحتفاظ بالسلطة في بلده وما يلحق بها من امتيازات يتمتع بها كحاكم. ويكتسب التابع من هذه الوجهة صفته كعميل، لكن افتقار مهمته إلى عنصر الطوع يمنحه في الوقت نفسه قسطاً من حرية التصرف يزداد مع تراخي الضغط عليه أو مع ضعف الإمبراطورية، أو أي ظرف مناسب آخر.
إن هذا يعني بدوره أن التابع يبطن استعداداً لتغيير سياسته من التبعية إلى الاستقلال أو نقل ولائه من جهة إلى أخرى، فهو إذن ليس تكويناً ناجزاً يمكن للدولة السيدة أن تدمجه في جهازها كما يندمج البرغي في الماكنة. إن تاريخ العمالة يبرهن على أن كثيراً من العملاء كانوا ينقلون ولاءهم أو يعلنون استقلالهم، وقد يتحولون بدورهم إلى أسياد. فالاحتفاظ بقـدر من الاستقلال الشخصي هو سمة مشتركة للعمالة القديمة. ومن المرجح أن يرجع ذلك سوسيولوجياً إلى تقارب المستويات الحضارية للمجتمعات الحاكمة والمحكومة، إذ أن ضعف وتيرة التطور الحضاري في تلك العصور لم يكن ليسمح بأحداث هوة سحيقة بين مجتمع متقدم في سلم المدينة وآخر متخلف.
لقد ظهرت لدى بعض الأمم السائدة آنذاك أعراض الشعور بالتفوق، المقترن أحياناً بازدراء الأقوام الأخرى، كما نشأت في زمن مبكر نزعة (مركزية الذات) Egocentrism وانعكست في الاسم الصيني لبلاد الصين وهو مؤلف من مقطعين: جين- مركز، وكوا-بلاد ، والمعنى: البلد الأوسط أي الذي في مركز العالم. ثم في أولى الخرائط التي رسمت في العالم حيث وضع البابليون مدينتهم بابل في مركز الدنيا، ووضعوا المدن والبلدان الأخرى في الأطراف. ثم جاء الإغريق ليطلقوا تحت تأثير نفس النزعة وصف البرابرة على بقية الشعوب، كما نجد نزعة مقاربة لدى العرب الذين سموا غيرهم أعاجم، والعجمة في الأصل من صفات الحيوان غير الناطق. لكن ضآلة الفروق في مستويات التطور الحضاري أوقفت هذا الشعور على عتبة أصحابه وليس لدينا في آثار الشعوب الأخرى إلا القليل من الأمثلة الدالة على المعادل السلبي للشعور بالتفوق، أعني ذلك الشعور الحاد بالنقص الذي يمكن أن يتسرب إلى مجتمع متخلف في تعامله مع مجتمع متقدم من ذلك النوع الذي عانته بعض المجتمعات المعاصرة بالتكامل مع الأيديولوجيات العرقية التي نشرها الاستعمار الثقافي.
من هذه الناحية لا بدّ أن تختلف شخصية العميل المحلي عن زميله التابع فالعمالة المحلية يتوفر فيها أمل الطوع، لأنها تقوم على التماثل بين مصالح الطرفين وتتم بناء على مساومة يبيع فيها العميل خدماتهُ لسيده الذي تجمعه به علاقات الرعوية القائمة في الغالب على وحدة القومية أو الدين، حيث يشترك السيد والعميل في استغلال الشعب من غير أن يمتاز الأول عن الثاني إلا بمركزه السياسي.
إن اختلاف طبيعة العمالة من الصنفين يؤدي إلى اختلاف شخصية العميل في كل منهما. وقـد لاحظنا الخصال المكونة لشخصية التابع وهي: الشعور بالغبن، النزعة إلى الاستقلال، الاحتفاظ ببعض الأصالة التي تمنع من الانصهار في شخصية السيد. ومن نفس الزاوية يمكننا استبصار مكونات شخصية العميل المحلي فنلاحظ:
الشخصية القناع
تظهر هذه لدى العميل الذي يقوم بدور الرتل الخامس، بالنظر إلى مهامه التي تحدثنا عنها آنفاً. إن العميل من طراز الرتل الخامس يعمل داخل صفوف الجماعة التي يتآمر عليها مما يفرض عليه شدة الكتمان، أي إظهار غير ما يبطن مع حمل ولائين، أحدهما للجماعة وهو الظاهر والآخر لسيده وهو الحقيقي.على أن هذا المسلك الذي أطلق عليه قديما اسم التقية، قد يكون مشتركاً بين فئات مختلفة الأهداف والسلوك، ذلك لأنه من لوازم النشاط السري لأية فئة أو طبقة تضطر إلى مزاولته. والتقية لذلك ليست سبباً لازما للشخصية المرائية. إن الكفاح مثلاً من أجل قضية عادلة في وسط يسيطر عليه القمع يفرض على المكافح التزام التقيد لأغراض الصيانة دون أن يكون صادراً في ذلك عن سجية مرائية تجعل منه محتالاً. لكن الأمر يختلف عندما يتم اختيار هذا المسلك في مجرى التواطؤ الذي تسيره اعتبارات المصالح المشتركة بين طرفين ينطلقان من موقع استغلال، وهو موقع يتنافى بجوهره مع العدالة.
إن الشخصية القناع تتلبس العميل في هذه الحالة بكل سماتها المنفلتة من ضوابط الأخلاق لأن نشاطه السري يقوم في الجوهر على اعتبارات غير مبررة أخلاقياً، كما أن العميل المحلي يخدم أغراضه الشخصية من خلال خدمته لأهداف سيده التي تفتقر بدورها إلى الأساس الأخلاقي لانطلاقها كما قلنا من موقع استغلال.
الانصهار في شخصية السيد
إن خلو العلاقة بين العميل المحلي وسيده من عامل القهر يجعلهما مرتبطين بمعادلة طوعية قوامها المصلحة المشتركة للطرفين في مقابل الشعب أو أي منافس أو طامع في امتيازات السلطة. وتؤدي الرابطة المطواعة إلى تفريغ شخصية التابع من نزعة التمرد أو الاستقلال الناشئة من الشعور بالغبن، مما يحد من اندفاعه في خدمة سيده إذ يخلق لديه شعوراً بالدونية في مقابل السيد. وينشأ عن ذلك في معظم الأحيان ضعف ذاتي في الشخصية يتمثل في استعداد غير محدود لتلبية مطالب السيد بصرف النظر عن طبيعتها.
ويدل تاريخ أعوان السلطة في العصور الإسلامية على أن هذا الاستعداد يمتد إلى ما هو من صميم الأمور الخاصة لللتابع. وقد يغدقه ذلك حريته كفرد، منحدرا به في سلم علاقته بسيده إلى العبودية المحضة التي تجعل الامتثال للأوامر نوعاً من المنعكس اللاشرطي يتغلغل في لا شعور التابع. مع ملاحظة أن هذه العبودية تتحول في علاقته مع من هم دونه إلى جبروت. وقد أشار أبو حيان التوحيدي إلى هذه المفارقة العصبية فقال في " الإمتاع والمؤانسة ": ما رأينا أحداً تعاظم على من دونه إلا بقدر ما تصاغر لمن فوقهِ. وهو تصور لواقع عاشه الكاتب الذي تغلغل في أوساط الطبقية الحاكمة وعرف أسرارها عن كثب.
نقلا عن: باب الوادالمصدر: مجلة دراسات عربية، العدد 4 شباط 1980
***
الهوامـش:
(1) الأخبار الطوال ط القاهرة 1960 ص 110.
(2) من ذلك زواج الأكفاء، أي عدم جواز تزويج العربية إلا للعربي وتحريمها على المولى (المسلم غير العربي)، وقد أقره العلمـاء ذوو النزعة السلفيـة متأثرين بسياسة الأمويين تجاه الموالي، وعارضه الشيعة والمعتزلة والخوارج.
(3)الراوية منقولة عن عبد الله بن الزبير وهي تفيد أن أبـا سفيان كـان إذا رأى الجولة للروم قال هاتفاً: (بني الأصفر، وإذا تراجعوا أنشـد ...). البيت غير واضح.
وبنو الأصفر الملوك ملوك الروم لم يبق منهم مذكور، وابو سفيان تاجر كبير ومتنفذ ورئيس عشيرة فهو من الطبقة المؤهلة للعمالة. وإن كان هذا لا يكفي لتوثيق الرواية التي يجب أن يؤخذ في تقييمها كونها صادرة عن خصم لبني أمية.
(4)لاحظ هاشم بن عتبة المرقال، أحد أتباع علي، صمود أهل الشام في وجه الهجمات العنيفة التي كان يشنها عليهم أهل العراق وخاف من أن يعطي هذا الصمود دليلاً على التعلق بقضية عادلة فخطب في مقاتليه قائلاً: لا يهولنكم ما ترون من صبرهم فوالله ما هو إلا حمية العرب وصبرها تحت راياتها، وإنهم لعلى الضلال.