القدس المحتلة - قدس الإخبارية: بيد تمسك بحفيدها، وبالأخرى تتكئ على عصاها الخشبية؛ إنها الحاجة منسية مزارعة، وهذه المرة هي الأولى التي تقابل زائرا من عشرات الصحفيين وحتى السياسيين ممن يأتون متضامنين مع سكان جبل "رأس العيازرة" أو "جبل البابا" في بلدة العيزرية شرق مدينة القدس بعد أن أخطرهم الاحتلال قبل نحو أسبوعين باعتزامه على هدم تجمعهم البدوي.
لم يكن سهلا أن نحظى بمقابلة منسية مزارعة؛ جاءت وهي تجر جسدها الذي أنهكته سبعة عقود ونيف من عمرها في حياة البداوة والعمل القاسي في كنف الوالد والزوج، فحياتهم تدور رحاها بين تربية المواشي ومساكنهم التي لم تتجاوز خيم الخيش أو بيوت الصفيح في أحسن الأحوال.
لكن الرسالة وصلت "لن نرحل عن أرضنا". هي تقصد ما تقول حقا، فوالدها الشيخ منيزل قطن جبل البابا قبل قدوم الفلسطينيين إلى هناك إبان نكبتهم عام 1948 وتشريدهم من أرضهم في تل عراد بالنقب جنوب فلسطين، ليصبح "جبل منيزل" كما تسميه هي محطتهم "الأولى والأخيرة".
لا للتهجير ولا للتعويض
بكل ثقة تحدثت المسنة الفلسطينية عن تشبثهم بالأرض، لم تنسها الأيام طفولتها، وكذلك أحفادها أحمد وعودة وعلي، الذين طوَّقت ضحكاتهم المكان لعبا ومرحا فوق أرجوحتهم في شجرة السرو بفناء منزلهم، أما هي فقد قضت طفولتها وشبابها في رعي الأغنام وصنع اللبن والجبن، وأظهرت تقاسيم الوجه وتجاعيده شيئا من ذلك الهم.
لا تبالي عجوز جبل البابا بإخطارات الاحتلال وترفض في المقابل أي تعويض ثمنا لتهجيرهم، وإن كانت "الهوية الإسرائيلية"، وتؤكد -معبرة عن حالها وحال الأهالي- أنهم لن يتخلوا عن "فلسطينيتهم" تحت أي ضغط أو ابتزاز.
فكرة "التعويض" أو "البديل" يرفضها سكان جبل البابا أساسا ويُطالبون الاحتلال بتوطينهم بأرضهم إذا كان يدَّعي أنها "أرض حكومية؛ فالأولى أن نظل بها نحن". يقول عودة مزارعة (47 عاما) نجل منسية وأحد سكان جبل البابا، ويُضيف أن الحقيقة غير ذلك، وأن الجبل "ملكية خاصة" لأهالي العيزرية.
بدا عودة غير مكترث بإخطار الاحتلال وعواقبه، فقد هُدم الجبل فوق الخمسين مرة، ولم تسلم نحو ستين عائلة تسكنه من تنكيل الجنود خلال اقتحاماتهم غدوا ورواحا، لكن إرادتهم غلبت مخالب وآليات الاحتلال وأصروا على البقاء.
لكن القلق يظل سيد الموقف؛ فالقرار هذه المرة "عسكري" -وفق عودة- وذُيِّل بتوقيع قائد جيش الاحتلال وتصرفه المباشر، ويتزامن مع حلول فصل الشتاء وموسم المواليد الجدد لأغنامهم التي تقدر بنحو ألفي رأس.
بعينه شهد عودة قيام مستوطنة معاليه أدوميم (شرق القدس) وغرس أنيابها "غصبا" فوق أراضي المواطنين في بطن الجبل المقابل عام 1978، ويقول آنذاك نشطت حركة الاستيطان بالقدس والضفة الغربية، لتغدو هذه المستوطنة أكبر مستوطنات الضفة، ولم تزل بيوت الخيش والصفيح على حالها.
قبل أقل من أربع سنوات، دعمت بعض البيوت بألواح الزينكو (الصفيح) بدعم أوروبي، ورغم ذلك لاحقه الاحتلال وعده تغييرا في معالم المكان، "وهذا ممنوع بعرف الاحتلال الظالم، أما بيوت المستوطنين الفارهة فليس هناك ما يمنعها". يقول المواطن سليمان كايد (58 عاما).
لمضافة الصفيح خاصته، كان أبو غسان يتحسس الطريق، فالرجل الكفيف يُدرك تفاصيل المعاناة وعاشها وعائلته ذات العشرة أنفار حين هدم الاحتلال منزله مرتين وصادره في الثالثة، آخرها قبل أقل من عام، وحذره من أي بناء إسمنتي "ولو طوبة"، لتظل حبات المطر -التي تزامنت مع وجودنا- تعزف ضجيجا فوق ألواح الصفيح "لكنها أفضل حالا من العراء وبيوت الخيش"، كما يؤكد أبو غسان.
بين الساسة والمحاكم
ليس للفلسطينيين خيار سوى الصمود"، وفق تأكيد رئيس لجنة الدفاع عن الجبل عطا الله مزارعة، وهذا يتطلب وفق الرجل دعما رسميا يتمثل في تكثيف "الزيارات الدبلوماسية والإعلامية"، إضافة إلى "مواقف سياسية" تضغط على الاحتلال عبر رفع ملفهم لمحكمة الجنايات الدولية وحشد دعم الدول، لا سيما المناصرة للقضية الفلسطينية.
ومحليا يتابع الأهالي -حسب الرجل- إجراءاتهم القانونية في المحكمة العليا الإسرائيلية، حيث ينص القرار على حقهم في الاعتراض خلال ثمانية أيام.
ورسميا، عدت الحكومة الفلسطينية تهجير "جبل البابا" خطوة أولى في تنفيذ الاحتلال مخططه الاستيطاني لنقل ما لا يقل عن 46 تجمعا بدويا فلسطينيا تقع بين مدن القدس وأريحا بمناطق "سي" استكمالاً لما يسمى "بخطة E1" الساعية لفصل القدس الشرقية عن الضفة الغربية منعا لحلم الفلسطينيين بأي دولة.
ويقول سكان جبل البابا إن العاهل الأردني الراحل الملك حسين بن طلال أهدى بابا الفاتيكان بولس السادس في زيارته الأولى للقدس عام 1964 أرضا من الجبل تبلغ 36 دونما من أصل مساحته المقدرة بـ2400 دونم (الدونم يساوي ألف متر مربع)، وذلك عرفانا بصنيع البابا وإيواء لاجئين فلسطينيين ومنحهم بيوتا آنذاك، لكن الاحتلال لاحق أراضيهم وأراضي البابا بالاستيطان.
المصدر : الجزيرة