حدثني أبي قال، "كان أبو عقاب حامد العبدالله -رحمه الله- يجلس وحوله كبار السن ممن أنهكهم تعب النهار والكدُّ فيه إلى زاوية في بيتٍ قديم وسط حارة العطايشة في قرية عقربا، ويديرون عجلة الراديو الذي يعمل عبر بطاريات الحجر، ليستمعوا إلى بُكائيات ومواويل عراقية حزينة تُبثُّ عبر الأثير لرجل يندب أخاه الذي لقي ربه شهيداً في حرب 48، وهو يُقاتل العصابات اليهودية ومشروعها الصهيوني، فيبكون معه الشهداء وضياع الوطن".
يقول أبي: كُنا نسمعهم يقولون عنها بكائيات (حميد العراقي)، وكان الموال حزيناً رغم روح البطولة التي صنعها أخوه الشهيد.. سألت عن نصِّ مسموعات (أبو عقاب) وبكائيات حميد العراقي، فقالوا: "كان هذا قبل العام 67 فعن أي بكائيات تسأل! بل؛ وهل بقي من عراق حميد شيء"!؟.
قادني البحث والتفتيش عن حميد العراقي صاحب البُكائيات التي استهوت رجال بلدتنا في أواسط القرن المُنصرم، لأقع في حقل ما خسر العراق وأضاع بعد الغزو الأمريكي، من رموز وشواهد أثرية وحضارية وعلماء طالتهم يد القتل والاغتيال، فكنت كمن يتتبع نقطة ماء سقطت في بحر.
لا أبالغ حين أقول إن ما خسره العراق جريمة لا مثيل لها في العالم، وهيهات أن يُعوّضَ ما فُقد، فقد دفع العراق ثمن وقوفه مع فلسطين ورفضه للهيمنة الصهيونية على العالم العربي. ومن بين ما أُحصي من مسروقات العراق كان هناك أكثر من 150 ألف قطعة أثرية سرقت من المتحف العراقي، منها التماثيل والأحجار التي تعود للمعابد السومرية والبابلية والآكدية، والرومانية، والإسلامية.
كما نُهب قرابة 5000 ختم أسطواني وأكثر من هذا الرقم من العملات المعدنية والقناني الزجاجية والخرز والتعاويذ والمجوهرات، وقد يكون واحداً من أهم ما سُرق من متحف العراق قطعة فخارية كان يَجدُر بها أن تُعدّ من عجائب الدنيا السّبع، وهي ما تعرف باسم (بطارية بغداد).
[gallery type="slideshow" size="medium" ids="132903,132904,132905,132906"]بطارية بغداد ليست مُجرد قطعة أثرية سُرقت من العراق، إنها لغزٌ أثري مُعجز، وضع علماء العصر الحديث عموماً وألساندرو فولتا ((1745-1827 مُكتشف الكهرباء في مأزق. حيث بدأ الحديث بأن اكتشاف الكهرباء كان في حضارة بلاد الرافدين قبل ألفي عام، فما هي بطارية بغداد المسروقة؟ وما سر صفعاتها للعلم الحديث؟ ومن سرقها؟.
بطارية بغداد هو اسم شائع لعدة قطع فخارية صُنعت في بلاد الرافدين، خلال فترة الساسانيين أو فترة الحضارة البارثية قبل نحو 2000 سنة تقريباً، ولذلك تسمى أحيانًا باسم "البطارية البارثية".
وقد اكتشفت هذه القطعة أواسط ثلاثيات القرن الماضي في قرية "خوجوت رابة" بالقرب من مدينة بغداد، أثناء إحدى عمليات الحفر لإنشاء قنوات جديدة، وقد وضعها الحفارون جانباً، غير مُدركين لقيمتها أو ما تعنيه هذه الجَرّة الفخارية المُتآكلة بفعل عوامل الزمن والطقس، وهي جرّةٌ مصنوعة من الطين الأصفر ذي التكوين الغريب.
تم وضع الجرّة الفخارية في المتحف العراقي مع صناديق القطع الأثرية الأخرى دون الانتباه لميزتها، حتى أبصرها مدير المتحف العراقي الباحث الألماني (ويلهيلم كونق)، فاستطاع اكتشاف أنها كانت أكثر من كونها مجرد جرة فخار. وبدا واضحاً شغفه واهتمامه بها، حتى أنه حاول أكثر من مرة أخذها إلى ألمانيا لإجراء الأبحاث عليها هناك، لكنه لم يتمكن من ذلك، لأن ألمانيا وقتها كانت في خضم الحرب العالمية الثانية.
الجرة الفخارية كانت بطول 13سنتيمترًا تتوسطها أسطوانة من رقائق النحاس مثبتة بعنق الوعاء بسبيكة من الرصاص والقصدير، فيما يشبه اللحام في عصرنا، ويُغلفُ قرص نحاسي بإحكام الجزء السفلي من الأسطوانة المزودة بقضيب حديدي في وسطها، وقسم الأسطوانة العلوي مغلق بإحكام بمادة تشبه القار، ووجد قضيب الحديد متآكلًا بتأثير منحل كهربائي، وهو عبارة عن محلول موصل للتيار الكهربائي ويتحلل به، وقد يكون استخدم في هذا الوعاء الأثري عصير حمضي أو خل!
ومنذ بدأ خبر اكتشاف بطارية بغداد في الانتشار انهال الباحثون على العراق لدراسة هذه المعجزة، حيث أرسلت شركة بيتسفيلد الأمريكية مُهندسي (جنرال إليكترك) لإجراء تجارب على بطارية بغداد، وتم الاستعانة في هذه التجربة برسومات وأبحاث المُكتشف ويلهيلم كونق، كما استعانوا بالكبريتات النحاسية، وانتهى الأمر بتوليد الكهرباء من البطارية ونجاح التجربة، وعاد الباحثون إلى بلادهم مذهولين من تلك البطارية التي أثبتت اكتشاف الكهرباء قبل ألفي عام من وقتها الذي أعلن عنه مكتشفها الألماني في القرن السابع عشر.
بعد الاكتشاف بثلاثة عقود أجرى عالم ألماني شهير تجربة على نموذج مماثل لبطارية بغداد، لكنه ملأها بالعصائر وخاصةً العنب، واستطاع أيضًا توصيل الكهرباء، وقد خرج هذا العالم وصرّح بأن شحنة واحدة من هذه البطارية قادرة على طلاء تمثال متوسط الحجم صُنع من الفضة بصبغة الذهب. وقد بدا الاختلاف واضحاً بين العلماء حول وظيفة هذه البطارية الأقدم في العالم، وقدمت فرضيات كثيرة لحل لغز "بطارية بغداد"، وكان من هذه الفرضيات:
قولهم إنها صنعت لحفظ ورق البردي والنصوص المقدسة وقال بعض العلماء إنها كانت وسيلة للعلاج، وبرروا ذلك بالعثور على إبر بالقرب من البطارية، فالعلاج بالإبر من المعروف أنه يحتاج إلى الكهرباء، مثلما هو الحال في الصين، وذهب آخرون للقول إن قدماء العراقيين استخدموا البطارية كوسيلة للطلاء الكهربي، وطلاء الفضة بقشرة من الذهب. وهناك من قال إنها كانت لممارسة الطقوس السحرية من قبل الكهنة، وظهرت دراسات غربية تنفي فكرة الكهرباء في هذه البطارية باعتبار أن الأمر غريب ويحتاج إلى أدوات أخرى لم يثبت وجودها بالحفريات في العراق، وقال آخرون إنها قد تكون وصلت للأرض عبر أحد المكوكات الفضائية...الخ.
وبالرغم من كثرة الافتراضات التي أطلقها العلماء حول مُبرر صناعتها إلا أنه لا يُمكن الجزم بأيٍ منها، وما زالت بطارية بغداد حتى الآن لغزًا يُحيّر العلماء ولم يصلوا معه إلى تحليل علمي مُسلم به.
لكن بطّارية بغداد لم تسلم من السرقة والمصير المجهول، ففي أعقاب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 اختفت "بطارية بغداد" اللغز الأشهر أثرياً في العالم، وتوجهت أصابع الاتهام للعصابات التي تدار صُهيونياً لسرقة آثار العراق وقتل عُلمائه.
وبسرقة واحدة من أهم آثار الحضارات في العالم تولت فرقة دولية مُشكلة أمريكياً البحث عن البطارية، وبعد نحو ستة شهور من البحث أعلنت اللجنة أنها بذلت قصارى جهدها في البحث، لكنها بكل أسف لم تستطع العثور عليها، وهكذا أُسدل الستار عن حكاية "بطارية بغداد" واختفت كأنها لم تكن ذات يوم.
ويبقى السؤال: هل سرقت المافيا المُدارة صهيويناً آثار العراق؟ وحملت من بلاد الرافدين اللغز المُعجز "بطارية بغداد" مُواصِلة بذلك قتل البُطولة والعلم والحضارة في عراقنا المجيد؟
وإلى أن يكشف لغز سرقة "بطارية بغداد" هل يعود موال حميد العراقي البُكائي نائحاً على ما فقدوا في مواجهة الغطرسة الصهيوأمريكية، ويتجدد نحيبنا على الضياع والخسارة التي ما فتئنا نتجرع حسرتها منذ ضاعت فلسطين وسقطت بيد الاحتلال الصهيوني.