تصاعدت "جعجعات" المصالحة في حوارات القاهرة دون طحن، تعلو وتنخفض مع كل هبة دبلوماسية، أو تهديد لمصلحة سياسية، بعدما كانت قد طحنت "جعجعة" تقاسم الكعكة "الأوسلوية" العديد من رؤوس الأتباع الذين راحوا ضحية التنافس على سلطة هزيلة، لا هي حررت أرضا ولا أرجعت لاجئا، ولا حتى أزالت حاجزا من حواجز حرس الحدود "الإسرائيلية". بل ازداد صلف الجنود "الإسرائيليين" المدججين بالسلاح على تلك الحواجز، وتعلو أصواتهم حتى أنها تنال من أصحاب المعالي، ويتعرض الجنود "في الدولة المجاورة للسلطة!" لأصحاب الألقاب من محافظ ووزير وتعلو القائمة.
إذا لم يكن للسلطان سلطانا على نفسه، وإذا كان جندي الاحتلال هو صاحب الكلمة الأولى على الأرض، فأي مشروع وطني هذا الذي أريقت لأجله دماء الأتباع؟ وأي سلطة وطنية تلك التي قسّمت إلى سلطتين متنافرتين بقوى أكبر من تجاذبها "الوطني"؟ وأي حوار وطني هذا الذي تنظمّه معادلات ذلك المشروع المتناحر داخليا؟
أسئلة سهلة عند الصياغة لكنها عسيرة عند الإجابة من قبل القادة والساسة الرسميين بعد أن لم يعد في قواميسهم معنى لمصطلحات التمرد على الواقع الأليم، وبعد أن تم ترويض الوسط السياسي على قبول مسيرة الزحف نحو العدو على خيول "المبادرة العربية"، أو السباحة فوق موجة "التقزيم للقضية"، على اعتبار أنها لم تعد قضية أمة ولا حتى شعب، بل ولا قضية أهل الأرض فيها، ولا حتى قضية الأتباع من الفصائل، بل أمست مقزّمة في أروقة الحوار لتصبح قضية "فلان وعلّان"، ممن تبسط لهم البسط الحمراء في العواصم العربية والعجمية، وتملأ حقائبهم الدبلوماسية بالدولارات. وقد تحوّل مصطلح "العبور" عن عبور المجاهدين من عرب وعجم إلى عبور التمويل أو التهريب، أو عبور وفود المطبعين. فأي مشروع هذا الذي يجب على أهل فلسطين أن يلتفوا حوله؟ وأي حوار وطني ذاك الذي يستمر بلا نهاية حول هذا المشروع؟
هب أن القادة اتفقوا على هيكلية المنظمة، وعلى قواعد لعبة الانتخابات، وعلى محاصصة عدد الطلقات في كل بارودة لدى الأجهزة الأمنية، وعلى اسم ورسم رئيس الوزراء، وعلى ألوان مقاعد المجلس التشريعي، الذي تمتد إليه أيدي جنود الاحتلال كلما شاءوا، هب أن الحوار نجح في إجبار الخطين (الفكريين) المتوازيين (إن كانا فعلا متوازيين) على الالتقاء على صيغة تحقق الاعتراف بشرعة التقسيم وحل الدولتين، وتحفظ ماء الوجه لقادة المقاومة، فإن السؤال البسيط حينها: ماذا بعد؟ هل يمكن أن يرى المتحاورون أبعد من أنوفهم؟ هل يمكن أن يفهمونا كيف سيتقدم ذلك بالقضية شبرا واحدا؟
يتساءل بعض الكتّاب والمهتمّين: ماذا لو فشلت المصالحة؟ والحقيقة أن السؤال الأهم والاستراتيجي هو: ماذا لو نجحت المصالحة؟
لقد فشل الحوار الوطني الفلسطيني مرارا، وعرفنا النتيجة: يبقى الحال على ما هو عليه من تقزيم، وردح على الفضائيات حتى يتحرك عرّابه من جديد، وعندما يَكلّ العرّاب المصري الحالي ويملّ، فإنه يُسلم الملفات لعرّاب آخر، كما كان قد تسلّمها من العرّابين من قبله في اليمن وقطر وتطول القائمة.
ولعل البعض يعتبر أن السؤال الثاني هو أيضا معروف الإجابة، فقد يعتبر البعض أن الحوار الوطني كان قد نجح في مكة، وتم تشكيل حكومة وطنية، وعرفنا النتيجة أيضا: فقد أدت إلى فض الشراكة وقسمة المرافق بين الشركاء، وصار لفلسطين سلطتان وحكومتان وحتى قافلتي حج، بعدما أريقت لأجل تلك القسمة دماء زكية وأزهقت أرواح بريئة.
إذاً، لعلّ نتيجة نجاح الحوار الوطني ونتيجة فشله معروفتان ومجرّبتان، فإن كان الحال كذلك: فهل نعيش اليوم حالة من العبثية السياسية؟ وهل نتابع سباقا "مارثونيا" أو سباق حارات سلطوية دون القدرة على تجاوز حدود الملعب المسيّج بالتمويل والمحروس بجنود الاحتلال؟
وبغض النظر عن توصيف ذلك الحال من الحوار اللامنتهي، يبقى السؤال الجوهري يدور حول البحث عن مضمون مشروع جاد في أدبيات وأطروحات المتحاورين، مشروع متكامل يخرج القضية عن سياق الأخذ والرد وعن سياق اللهث وراء سراب السلطة وسراب الوعود الدولية وسراب التمويل الغربي، ليعيدها إلى سياق التحرير الفعلي الذي يؤدي إلى الحل الجذري.
فهل لمثل هذا السؤال من جواب لدى قادة المقاومة وساسة السلطة:
ماذا إذا نجحت المصالحة والتقى الفرقاء على مشرع يدمج أدبيات المقاومة مع مشروع المفاوضة في منطقة وسطى وتمّ تسميتها "بالمقاوضة"؟، ما هي الرؤية السياسية بعد تلك المحطة؟، أم أن العمل السياسي يقوم على مبدأ التسويف في مقابل الانشغال بتفاصيل الإجراءات دون الانتباه للأهداف؟
هل سيستمر الجميع في اللهث نحو حل الدولتين إلى حين من الدهر؟ أم سيرفع الجميع سلاح المقاومة إلى حين من الدهر أيضا؟ أم سيفاوض من يفاوض ويقاوم من يقاوم إلى حين من الدهر أيضا؟ وماذا بعد ذلك الحين من الدهر –طال أم قصر؟ وهل يمكن أن تحقق المقاومة هدف التحرير الكامل دون جيوش الأمة؟
قالوا "من الحب ما قتل"، ولكن يبدو أنه "من الأسئلة ما قتل!". لأن إثارة الأسئلة الجوهرية تقض المضاجع وتقلق "الضمير" وتوقظ المخدّر.