لم تتوقف اثار نكبة عام 48، على نتائجها المباشرة بتشريد مئات الاف الفلسطينيين واقتلاعهم قسراً من بيوتهم ومدنهم وتجمعاتهم وإفناء حيواتهم الإجتماعية والسياسية، ودحرها للذكراة التي حفظت جزء وتفلت منها جزء اخر، بل امتدت لمستويات أخرى وعلى مناطق فلسطينية أكبر، من بينها ما لحق من فقر وخسارة للأراضي لما يعرف "بالقرى الأمامية" غرب الخليل "بيت أولا، وخاراس، وإذنا وغيرها".
في يوميات محمد عبد الهادي الشروف، وهو عسكري متقاعد من الشرطة البريطانية، يسجل طيفاً هاماً من تاريخ الناس في المنطقة، مما لم تتناوله الكتابات التاريخية بشكل كبير، حيث اعتاد أن يسجل ملاحظاته بشكل يومي من خلال عمله في الشرطة بيافا، ومن ثم ترك العمل والتحق بالثوار ومهمة حماية قريته بيت أولا والبلدات المحيطة بها، خلال حرب فلسطين.
بالإضافة لإشارات هامة عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي لأهالي يافا، قبل النكبة، تسلط اليوميات التي يسجلها الشروف على المعارك التي شنها الثوار ضد مستعمرات "غوش عتصيون" قبل تفكيكها، والمعارك العنيفة في مناطق بيت جبرين والفالوجة وغيرها، والترتيبات في القرى الأمامية أو قرى "صف العملة"، لمواجهة العصابات الصهيونية التي كانت تسلل للمنطقة.
كما يتبين من خلال مذكرات الشروف حجم الكارثة التي حلت بمنطقته، حيث فقدت مئات الدونمات، خلف الحدود التي تشكلت بعد النكبة، وحالة الفقر التي أصابت الأهالي وبعضهم كان يسكن المغر والكهوف، ورفضت "الأونروا" إدراجهم ضمن اللاجئين، ونضاله المستمر من أجل تحصيل حقوق لهم من الإدارة المصرية وتبعها الأردنيون والمؤسسات الدولية.
ويلاحظ في اليوميات حرص الشروف على الحديث، خلال مناسبات "بيت أولا" المختلفة، عن أهمية العلم في رفع القرية على طريق ما يسميه رفعة الأمة، والحديث عن أهمية الفلاحين في نهضة فلسطين والأمة العربية، ومن خلال اتصالاته وسعيه بين المسؤولين من أجل زيادة عدد الصفوف المدرسية، وهذا الحراك يبين ولو جزئياً العلاقات بين عائلات القرية والمنطقة، والتداخلات بينها وطرقها في حل المشاكل بينها.
مما يثير الانتباه في مذكرات الشروف، ما يمكن أن نطلق عليه "البرود" في التعامل بالكتابة عن الأحداث الشخصية التي مرت به، مثلا حادثة وفاة طفلين له، وكيف أدرجها في سياق خبري عادي، أن نجله توفى ودفن في الساعة واليوم الفلاني، بينما تبرز عاطفته في مواقع أخرى عند الحديث عن بحثه عن نجله الذي خرج من البيت غاضباً إثر خلاف بين العائلة.
جراء الظروف الاقتصادية الصعبة اضطر الشروف للانتقال، إلى الأردن للعمل في مصانع الفوسفات بالرصيفة، وهو ما كان حذّر منه أن استمرار الأوضاع الصعبة التي تعيشها المنطقة قد يدفع الناس للهجرة، وبعد ذلك سافر لمخيم خان الشيخ في سوريا، وعاش لفترة طويلة، لكنّه مات في الأردن ولم يتمكن من العودة لفلسطين.
يدرج الباحث ومحرر مذكرات الشروف ضمن ما يسمى "بدراسات التابع"، التي تبحث في الرواية التاريخية، كما رواها الذين عاشوا الأحداث من زاوية أخرى مختلفة ربما عن حياة النخبة التي حكمت فلسطين لسنوات طويلة.