الأغوار الشمالية - قدس الإخبارية: بين مد الخوف وجزر المعاناة، صارت حال نبيل دراغمة أبو فراس وآخرين يقطنون بالأغوار الفلسطينية شمال الضفة المحتلة بعد أن تلقوا بلاغات إسرائيلية قبل أسبوع تطالبهم بالرحيل عن مناطق سكناهم.
في مثل هذه الأيام من كل عام، من المفترض أن يكون دراغمة وجيرانه في أم الجمال وعين الحلوة وغير مكان في الأغوار الشمالية قد استعدوا جيدا "للبيات الشتوي" وتجهزوا لحماية أنفسهم ومواشيهم، بيد أن الاحتلال جاءهم بما يشغلهم وينغص عيشهم.
ليست المرة الأولى التي يُهجر فيها الفلسطينيون "لساعات أو لأيام" لدواع أمنية أو عسكرية كتدريبات الجيش، لكنها الأولى التي يُخطرون فيها بأمر عسكري مباشر لقائد المنطقة يطالبهم بالرحيل "إلى غير رجعة".
بدأت قصة "الإخطار المشؤوم"، كما يسميه دراغمة، قبل أيام قليلة حين ترجَّل ثلاثة جنود من مركبة عسكرية خاصة على بعد عشرات الأمتار من منازل المواطنين البدو في أم الجمال، أخرجوا كاميرات بحوزتهم وأخذوا يصورون أشياء ملقاة على الأرض.
لم يكترث دراغمة حينئذ، وظل يرقب المشهد وهاجس الخوف يطارده، فالجنود عادة ما يثيرون "الريبة" بتصرفاتهم.
خيمة عمليات
ساعات مضت قبل أن يعثر الرجل على مغلف بلاستيكي وضع أسفل حجر يحوي أوراقا باللغتين العربية والعبرية وخريطة توضيحية للمنطقة، ويكتشف أن "كارثة" حلت بهم قبل أن يبادر ويخبر الجهات المسؤولة.
لم ينضب سخّان القهوة لديه وتحوَّلت خيمته الصغيرة إلى "غرفة عمليات" يستقبل فيها وفود الصحفيين والحقوقيين الذين جاؤوا يعاينون مأساة خمسة وعشرين عائلة تعد نحو ثلاثمئة نسمة سيرحلون قسرا عن أرضهم.
لوَّح دراغمة بيده ليرشدنا لمسكنه، فبيوتهم من الخيش والنايلون المقوى تشابهت، وربما لن تبقى طويلا، فالاحتلال يُطالبهم بالهدم والرحيل قبل أن يفعل ذلك هو ويُكبِّدهم "تكاليف العملية ويُصادر ممتلكاتهم" حسب الإخطار.
في المكان يعيش دراغمة منذ عقود حاله في ذلك كوالده وجده، فالأرض تعرف من يطؤها والشمس أحرقت جسده، كانت تجاعيد وجهه تشي بشظف العيش وشقاء الرجل رغم عمره الأربعيني "لكني سأظل صامدا في أرضي ووطني"، صرخ قائلا.
معاناة مضاعفة
وبالقرب من خيمة دراغمة، كانت الحاجة الخمسينية مريم عيسى (أم محمد) قد أنهت للتو توضيب وتنظيف خيمتها، لم تحظ هذا العام بتغطية أرضيتها بالإسمنت كما فعل جارها دراغمة، مما سيزيد معاناتها خلال الشتاء بفعل السيول، وربما عُدَّ ترفا أن حظي بعضهم بدعم خارجي بألواح شمسية لتوليد الكهرباء.
لم يكن سهلا أن تخرج علينا السيدة لتروي حكايتها دون أن تغطي وجهها بلثام، فليس سهلا أن تقنع بدوية بالحديث للإعلام، لكن صلف الاحتلال فجَّر غضبها، وصار "القلق والسهر" رديفها وعائلتها للمناوبة على الحراسة ليلا خشية أي هجوم يجردهم من أرضهم "بعد ربع قرن من الصمود" تضيف قائلة.
تبدي مريم صلابة وتحديا للاحتلال وتخفي حزنا يسكنها أمام أحفادها، دعتهم للهو بعيدا بدراجتهم التي أنهكتها وعورة الأرض، لكنها أوعزت لابنها بإخراج جرارهم الزراعي "خشية مصادرته".
يزيد معاناة دراغمة والحاجة مريم أن الترحيل تزامن مع موسم تلد فيه أغنامهم التي تزيد عن أربعمئة رأس وفترة تخزين أعلافهم المُقدرة بآلاف الأطنان لاستخدامها في "البيات الشتوي".
تطهير وتفريغ
ما يواجهه السكان بأم الجمال وعين الحلوة يصنف بأنه "سابقة خطيرة" لا سيما وأن الاحتلال تعامل ولأول مرة بغير القانون المحلي الساري، وإنما "بالأمر العسكري" الذي أصدره عام 2003 والذي لا يلزمه بإخطار المواطنين مباشرة بمنطقة يُعدها محدودة وخالية من السكان، وفق المحامي توفيق جبارين المكلف بالدفاع عن المواطنين.
والقادم سيكون "الأسوأ" خاصة إذا ما رفضت المحكمة اعتراض الأهالي، فالإنذار يقضي بالهدم والطرد الكامل "ودون استثناء لبشر أو حجر"، يُضيف جبارين.
إذا ما نجح الاحتلال بطرد الفلسطينيين بعين الحلوة وأم الجمال ومصادرة الأرض المقدرة بـ550 دونما (الدونم يساوي ألف متر مربع) فستكون قد أطلقت صافرة "الترحيل المر" و"التطهير" للأغوار الفلسطينية التي تُصنفها ضمن مناطق "سي" حسب اتفاق أوسلو والتي تزيد عن 60% من مساحة الضفة الغربية.
المصدر : الجزيرة