قبل مائة عام، عندما وعد آرثر بلفور، الذي كان حينها وزير خارجية بريطانيا، بالمساعدة في إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، غيرت كلماته العالم. لقد كان ذلك منعطفاً مهماً في التاريخ الإمبريالي عندما عبر عن ذلك الكاتب اليهودي المجري آرثر كوستلر بقوله الذي بات مأثوراً: "هنا شعب يعد شعباً آخر بلد شعب ثالث."
كان وعد بلفور قد صيغ بلغة يكتنفها الغموض ضمن رسالة موجهة إلى اللورد والتر روثتشايلد، أحد زعماء الجالية اليهودية في بريطانيا. ما وعد به السيد بلفور هو "وطن قومي للشعب اليهودي" ولم يكن وعده يتحدث عن دولة. فقد كان رجل الدولة البريطاني معاد لفكرة الحكومة اليهودية التي وصفها في وقت لاحق بالمرفوضة.
لكنه لم يصرح كيف سيتم إيجاد هذا "الوطن القومي"، واكتفى بالحديث عن أن بريطانيا ستبذل "أقصى جهودها" لإنجازه. وكان من المفروض أن يتم كل ذلك دون الإضرار بالحقوق المدنية والدينية للجاليات غير اليهودية التي تعيش في فلسطين، والتي كانت في ذلك الوقت تشكل ما نسبته تسعون بالمائة من السكان. من الملاحظ أن السكان العرب لم يطلق عليهم اسم العرب، ولم يسعى أحد لاستطلاع آرائهم. وبينما يرى الإسرائيليون أن وعد بلفور هو أحد الوثائق التي أسست لوجودهم في فلسطين، يعتبره الفلسطينيون خيانة عظمى وأساس كل المصائب التي لحق بهم من "بؤس وتشرد واستمرار الاحتلال."
بات وجود "إسرائيل" حقيقة تاريخية. وكان تأسيس الدولة بعد ثلاثة عقود من وعد بلفور قد أصبح مبرراً أخلاقياً بسبب فظائع الهولوكوست. وذلك أن العالم الذي أرهقته الحرب وأضحى متعاطفاً مع معاناة اليهود غض الطرف عن الثمن الذي فرض على الفلسطينيين دفعه على جريمة لم يرتكبوها. وهذا الإدراك المتأخر للظلم الذي ترتب على ذلك – وتمثل بالنكبة الفلسطينية – يعني أن إقامة دولة فلسطينية بات أمراً مبرراً بنفس القدر. بل من شأن حل الدولتين أن يسمح للفلسطينيين والإسرائيليين بزن يديروا شؤونهم دون تدخل من أحد.
كانت صحيفة الغارديان في عام ١٩١٧ قد دعمت وعد بلفور واحتفلت به، بل ويمكن القول أيضاً إنها ساعدت في تمهيد الطريق لإصداره. ولكن "إسرائيل" اليوم ليست البلد الذي تخيلناه حينئذ أو أردناه. فهي اليوم تدار من قبل أكثر الحكومات يمينية في تاريخها، وما تلبث البلاد تجر باستمرار نحو اليمين من قبل متطرفين متعصبين. لا يكف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنجامين نتنياهو عن التصريح بالتزامه ببناء مزيد من المستوطنات اليهودية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، في انتهاك سافر للقانون الدولي.
ويعمد السياسيون اليمينيون بكل سخافة إلى وصم المنظمات غير الحكومية التي تطالب بمحاسبة الجيش على ممارساته داخل الأراضي المحتلة بالخيانة، إذ يرغبون في الاستمرار بانتهاكاتهم في الظلام بعيداً عن أعين ورقابة الناقدين. وفي هذه الأثناء يزداد تحجر التيار القومي داخل الوسط السياسي الإسرائيلي الذي يهدد بتقويض الحرية السياسية والاستقلال القضائي.
وبدلاً من أن ينأوا بأنفسهم عن إصدار الأحكام بما يمكن أن يعبر عن احترام القضاء، يبدو أن الوزراء الإسرائيليين يسعون إلى تدمير ثقة شعبهم بالقضاة بوصفهم الحراس المؤتمنين على سيادة القانون. وأما نتنياهو، الذي يواجه الآن تحقيقين في قضايا فساد، فقد هاجم الشرطة ووسائل الإعلام التي اتهمها بنشر الأخبار الملفقة. كما هاجم وزراء في الحكومة ضباطاً في المخابرات الداخلية الإسرائيلية، التي تعرف باسم شين بيت، بينما هم على رأس عملهم. في تلك الأثناء حذر الرئيس الإسرائيلي، الذي ينتمي إلى نفس حزب السيد نتنياهو، من أن "إسرائيل" "تشهد رياح ثورة ثانية أو انقلاب."
أما من وجهة نظر الفلسطينيين فالأوضاع في غاية البؤس، حيث يعيش ما يقرب من خمسة ملايين منهم تحت الاحتلال العسكري، والمستمر منذ خمسة عقود. هناك ما يقرب من 1.7 مليون فلسطيني ممن يحملون الجنسية الإسرائيلية ولكنهم يرزحون كأقلية تحت وطأة المراقبة الحثيثة خشية أن يصدر عنهم ما يثير حفيظة الأغلبية اليهودية.
بل، لقد حظرت السلطات الإسرائيلية بعض الأحزاب التي أسسها هؤلاء الفلسطينيون، الذين يبرر إخضاعهم لقوانين عنصرية تميز بينهم وبين اليهود بدوافع الأمن القومي. في نفس الوقت، هم أفقر من جيرانهم اليهود ويتعرضون لتمييز مسيء.
ومع ذلك فإن أوضاعهم المعيشية أفضل بكثير من أوضاع الفلسطينيين الذين يعيشون في غزة والضفة الغربية، حيث يعاني المجتمع هناك حالة من الانشطار السياسي بين تطرف حماس وعجز فتح. ونظراً لاستمرار الاستيطان غير القانوني وبسبب حزمة من القيود القانونية والإدارية فإن الفلسطينيين، الذين من المفترض أنهم وعدوا خمس الأرض بموجب اتفاقيات أوسلو، باتوا لا يتحكمون بأكثر من عشر أراضي فلسطين التاريخية. بل إن انتشار الجيش الإسرائيلي وتنقله بحرية مطلقة في كثير من المناطق التي يسيطر عليها الفلسطينيون يقوض فكرة أن هذه المناطق تدار فعلياً من قبل الفلسطينيين.
لقد ساهمت الفوضى العارمة في الشرق الأوسط في تهميش القضية الفلسطينية وتراجعها على الساحة الدولية. وإذا لم يتمكن السياسيون الإسرائيليون من إيجاد حل يقوم على مبدأ الدولتين فإن الأمر الواقع سيكرس واقع الدولة الواحدة أو استمرار الاحتلال بشكل دائم. إلا أن المثير في الأمر أن شعار الدولة الواحدة بات وسيلة مناسبة للتهرب من الإجابة على كثير من الأسئلة، بما في ذلك ما يتعلق بحجم ونطاق الدولة الفلسطينية التي من المفروض أن تقام في المستقبل.
لقد كانت خطيئة بلفور الأولى هي أنه منح حقوقاً قومية لطرف واحد فقط من الطرفين اللذين يدعيان ملكية الأرض، ولا يجوز بحال تكرار ذلك. يحتاج الفلسطينيون لأن يتمكنوا من حكم أنفسهم في دولة معترف بها. وسوف يقع بصر العالم ثانية على "إسرائيل" وعلى الوضع الذي يعيش فيه الفلسطينيون. وحتى يتسنى إنهاء الصراع الذي استمر لمائة عام يحتاج الطرفان لإدراك أنه ليس بوسع أحدهما أن يسود على الآخر بالعنف. ولا يمكن للسلام أن يقام إلا إذا وافق الطرفان على تقاسم الأرض التي يرنوان كلاهما إليها.