إن اختلاف القراءات لظاهرة أو قضية ما، لا يلغي وجودها المادي، حيث تختلف القراءات والتحليلات عادةً بناء على اختلاف المنهج المتبنى في القراءة. لذا فإن أي منهج يحاول نفي الواقع وإلغاء الوجود المادي للظاهرة/قضية أو حتى التشكيك فيه على أساس تعدد القراءات واختلاف الآراء، الأمر الذي قد ينجم عن قصور معرفي ما أو عدم اكتشاف جميع جوانب القضية أو اختلاف المعطيات التي تعالج على أساسها قضية ما وفي كثير من الأحيان يكون ناتج عن تبني منهج إشكالي في القراءة، هو منهج تضليلي وغير صحيح.
بالإضافة إلى أنه عادةً ما يحاول تأبيد الواقع المعاش، لأن فيه مصلحة من يحاول استخدام هكذا منهج. يستخدم أصحاب تلك القراءات غالبا أساليب متنوعة في الإقناع أحدها هو محاولة إيجاد تقاطعات وأرضيات مشتركة مع مختلف القراءات للوصول إلى نتيجة وهدف مختلف عما هو معلن، فيصبح كل شعار آخر مرفوع مجرد وسيلة لخطاب يحاول تمييع القضية ونسفها وهو بالتأكيد مختلف عما يعلن ذلك الخطاب.
لذا فإن محاولات تمييع القيم الإنسانية الأساسية اليوم في ظل ثقافة الإستهلاك المتفشية وثقافة السيولة هو احدى نتائج ذلك المنهج التضليلي في القراءة. ومن هنا تحاول القوى المستفيدة من الوضع القائم بنشر منهج قراءة الواقع على أساس نسبية الحقيقة وأن لا معنى لأي شيء ولا يوجد هناك حقائق ثابتة وأن كل تحليل لأي ظاهرة/قضية هو صحيح وخاطئ حتى تصل إلى درجة نفي وجود القضية فوجودها بحد ذاته رأي وقد يكون صحيح أو خاطئ، بالإضافة إلى أن كل من يتمسك برأيه بشكل قاطع ويرفض منهج التمييع ذاك فإنه متخلف ومتعصب ودوغمائي وقد يصل الاتهام إلى حدود الإرهاب الفكري، لذا فإن أي قراءة متمعنة لكل ذلك ترى بالضرورة أن كل ما يُستخدم من شعارات تقدمية وإنسانية سامية هي مجرد شكل وأداة، خطاب، لا يعكس الجوهر الحقيقي لأهداف تلك القوى المتمسكة في منهج القراءة التمييعية. وبالضرورة فإن أي منهج وقراءة تحررية تقدمية يكون جوهرها إنساني وعادل لن تنخدع بالخطابات المروج لها في كل ما هو تضليلي كجوهر في تلك السياقات.
- التطبيع وعالم الثقافة السائلة:
وفي عالم اليوم، حيث الرأسمالية بأقسى أشكالها منذ إعلان "نهاية التاريخ" والسرديات الكبرى وانتهاء عصر الدول القومية وانتشار نظام السوق اللبرالي الجديد حاملا خطابه الجديد ذاك معه ورفعه شعارات "الحرية" للأفكار والمعتقدات والحركة وما إلى ذلك، وهو بالأساس قائم على توحيد العالم تحت راية الإستهلاك وتجريم كل من يحاول رفض ذلك، بالإضافة إلى استغلال واضطهاد الشعوب وقمعها. بعد كل ذلك تظهر أبواق فلسطينية وعربية متعصرنة تنادي بالتطبيع مع الكيان الإستعماري الصهيوني، حيث يستخدمون شعارات المرحلة التاريخية تلك للتعامل مع الكيان الصهيوني وكأنه واقع طبيعي لا كيان جرثومي سرطاني دخيل.
من ينادي بالتطبيع يستخدم أحيانا كثيرة شعارات "إنسانوية" و"نبيلة"، قد تكون بدوافع انسانية حقيقية على مستوى الأفراد، لكن بالضرورة هي ليست كذلك على مستوى المؤسسات القائمة على ذلك. دعاة التطبيع غالبا ما يقرؤون العالم بمنطق ميتافيزيقي ثابت لا يتغير، فيطرحون فكرة مفادها أن "إسرائيل" هي أمر واقع والوضع القائم من حيث توازنات القوى ومعادلاتها لا يساعد على رد العنف الإستعماري بالقوة والعنف، لذا فلنتصالح معه ونحمي ما تبقى من دماء. وقد يكون أكثر "انسانوية" على الاستعمار من منظومة الأخير على ذاتها، فبحكم الأمر الواقع والتطور التاريخي قد تولدت شرائح وأجيال لم تختر العيش في منظومة الاستعمار فما ذنب هؤلاء في تحمل آثار الصراع، والذي عادةً ما يحاولون وصفه بالأيديولوجي العقائدي لا قائم على أساس الإستغلال والإنتهاك لحريات وخيرات الشعوب.
لذلك لا بد من قراءة تضع الأمور في نصابها، قد أثبت التاريخ والعلم أيضا أن لا شيء يبقى كما هو، وكل شيء متغير ومن يثبت في مكانه يتجاوزه التاريخ ويتحجر ويتعفن. الكل يقر بذلك حتى أنه يتم استخدام تلك الحجة من قبل أصحاب القراءة التضليلية بأنه يجب علينا مواكبة العصر وعدم الثبات لأن ذلك لا يعني إلا الموت والتخلف وغيره، ويصل الأمر إلى اعتبار النضال ضد الظلم والاستعمار، وهذا ما يحتاج دائما إلى ثبات على الحق والقيم مع فهم المتغيرات، بأنه ثبات تحجري وتخلف. لابد من إعادة صياغة فكرة التغير والثبات لكي لا يتم استخدامها بطريقة تضليلية لإخفاء واقع الإستغلال والاضطهاد الذي يمارسه الاستعمار. فبالقراءة التاريخية الصحيحة التي ترى أن لا شيء يبقى على حاله، فواقع توازنات القوى وعلاقاتها ببعضها البعض متغيرة وفي حركة مستمرة يثبت أن الوضع القائم حاليا لن يبقى على ما هو عليه.
لذا فإن الدعوات الإنسانوية للحفاظ على الدم وأرواح الناس لعدم جدوى أي عمل مقاوم في ظل الواقع الحالي هي باطلة ومنافية للصواب، لأن حتى لو سلمنا بنظرية التصالح بدعوى الحفاظ على دماء المستضعفين فإن الاستعمار لن يكف عن ممارسة مكنونه الجوهري في الإضطهاد والقمع والاستغلال. وهذا ما أثبته التاريخ الفلسطيني الحديث منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي مع اتفاقية أوسلو والسلطة الفلسطينية، حيث سيخلق الاستعمار كل الظروف الموضوعية التي ستخلق بدورها التحول الكيفي ضد الواقع الموجود الذي قد يحمل نواة النضال والثورة. لذا ولكي لا يتجاوزنا التاريخ لا بد من التحرك والعمل لتحديد مسار التاريخ الذي يرفض كل أشكال الاضطهاد والاستغلال، والقاعدة التاريخية تقول أيضا بأن القوى "الضعيفة"/المستضعفة باتحادها وتراكم نضالاتها هي التي غيرت شكل التاريخ ومساره وردت على قوى الظلم والاضطهاد عنفهم. وفيما يخص شعارات الإنسانوية تلك، فلا بد من التفريق بين ما يسميه ديفد ديفس "منهج المعاملة الحسنة"، الذي يهدف إلى تحسين ظروف الحياة شكليا والمعاملة اللطيفة للإنسان والحيوان متجاهلا السبب الرئيسي وراء خلق تلك الأشكال المعيشية الصعبة وهو من أجندات اللبرالية الأيديولوجية، و "المنهج الإنساني في التعامل"، وهو بالتأكيد كل ما يحرص في كشف المحرك لأساس والسبب الرئيسي وراء الظلم الواقع على حياة البشر وسبب تعثر أوضاعهم المعيشية. لذا فالأجدر بنا أن نصب جهودنا لكي نتخلص من سبب إراقة الدماء والاضهاد والقمع وهو الاستعمار، لا تحسين العلاقة معه واعتبار استغلاله واضطهاده امرا واقعيا وطبيعيا.
هناك شعار انسانوي آخر يُطرح عادةً كمدخل "عقلاني" و "منطقي" لأي حوار ونقاش مع دعاة التطبيع، مفاده أنه ما ذنب من لم يكن له قرار في وجوده في المنظومة الاستعمارية، وذلك على العكس من الشعار الانسانوي السابق الذي يقوم على تجييش المشاعر والعواطف بحجة إنقاذ "الضحية" من العنف والاضطهاد الواقع عليها إن هي تخلت عن نضالها ضد الاستعمار.هذا المدخل الإنسانوي أيا كان نوعه فإنه مشوَّش وتضليليلافي آن، فالهدف الأساسي منه هو إخفاء الأساس الجوهري والوجه الحقيقي للاستعمار. كل ذلك مرة أخرى نتيجة تبني منهج قراءة غير صحيح وغير موضوعي يخدم القوى المسيطرة والمستفيدة من الواقع المادي الذي نعيشه، لذلك تحاول جاهدة تمييع الحقائق. وقد حظي هذا المنهج التضليلي صدى واسع في العالم بأسره وانتشر كانتشار النار بالهشيم، حتى أن الطبقات المُستَغَلة والمضطَهَدَة باتت تستخدمه في بعض الأحيان لقراءة واقعها، كل ذلك نتيجة امتلاك تلك القوى المسيطرة المنابر الثقافية والسياسية والإقتصادية والاجتماعية الأقوى والأكثر تأثيرا والتضييق قدر المستطاع على أي خطاب آخر مناهض وكاشف لزيف الحقائق التي تطرحها قوى الاستعمار.
وعليه فإن القراءة العادلة للواقع المادي المعاش ومعطياته دون تضليل وتمييع وتزييف، لا بد أن تتوصل إلى أن هناك جوهرا إنسانيا، وهو هدف بحد ذاته لا بد أن نحتكم إليه في أي معالجة. وبموجب ذلك، يقتضي بأن هناك طبقات مستغِّلة وأخرى مستغَّلة، وكل نضال لا يصب في الدفاع عن المضطَهَدين والمستَغَلين شكلا ومضمونا يصطف إلى قائمة الاضطهاد والاستغلال. بناء على ذلك، فإن القراءة الصحيحة للمعطيات ستحرر كل من وقع عليه ظلم النظام الاستعماري سواء عاش داخل تلك المنظومة وانتفع منها أم خارجها واقتاتت عليه وعلى استغلاله. وكل من يصطف خارج تلك الرؤية التحررية ويرى بأن الاستعمار انساني، سواء بوعي أو غير وعي، فإنه يساعد في محاولة تأبيد الواقع الاستعماري الحالي، الذي أثبت التاريخ بأنه لن يحصل، وعرقلة كل نضال تحرري يهدف لتحرير المضطهٍّد والمضطهَّد من منظومة الاضطهاد تلك. وبهذا فإن أي نضال تحرري لن يكون هدفه أفراد وإنما منظومة استعمار تستغل وتضطهد كل من داخلها وخارجها.
وأخيرا، لا بد من ذكر أن منهج التفكيك بدأ بمحاولات تفيكيك الخطابات والبنى الاستعمارية ومنظومات المركزة الأوروبية، إلا أنه تحول بشكل غريب إلى أداة بيد تلك القوى الاستعمارية لإعادة مترسة نفوذها وتعزيز خطابها حول تجميل صورة اضطهادها لنا. لذا علينا أن نكون حذرين من الوقوع في المصدية الخطابية التضليلية.