دأبت مراكز الأبحاث والاستخبارات الغربية على تسمية المبادرين إلى العمليات الفردية بـ"الذئاب المنفردة". والظاهر أن هذا المصطلح بدأ استخدامه إعلامياً ثم انتقل منه إلى عالم الاستخدام المخابراتي، فهو استعار تعبيراً إنجليزياً يستخدم لوصف كل شخصٍ يميل إلى تفضيل الحياة والعمل بشكلٍ منفرد. وهذا التشبيه هو ابن بيئةٍ باردة تتواجد الذئاب في غاباتها بشكلٍ واسع الانتشار، ما جعل سكانها يدركون بأن الأصل في الذئاب أن تعيش وتصيد بشكلٍ جماعي ضمن زمرة، إلا أن بعض الذئاب قد تُطرد من الزمرة أو تميل لتركها، ولكون هذا السلوك يشكل استثناءً عن الأصل فقد باتوا يصِمون به من يمارسونه من البشر.
هذا التعريف سلبي بطبيعته، فتجربة الشعوب التي تعايش الذئاب أنها مصدر خطرٍ كبير عليها وعلى أرزاقها أولاً، والذئب المنفرد يشكل شذوذاً عن الحالة الطبيعية ثانياً، كما أنه أقل نجاحاً في صيد طرائده –فالذئب بطبيعته مفترس متوسط الحجم يصعب عليه صيد الطرائد منفرداً- ما يجعله أكثر عرضةً للجوع وأكثر توحشاً، ولعل هذه الصفات السلبية هي التي أغرت أجهزة المخابرات بوصم أعدائها بها لتجريمهم، ولتقول إنهم منبتّين عن بيئتهم الاجتماعية، وإن خطرهم محدود في الوقت عينه فتتجنب بذلك تمجيدهم في عين الجمهور. وقد نشرت وزارة الأمن الداخلي الأمريكية في عام 2016 وثيقة استرشادية للراغبين بالبحث حول هذا المصطلح أحصت 124 مقالاً محكماً، و53 كتاباً و62 تقريراً.
ولما كانت المخابرات الصهيونية جزءاً عضوياً من مجتمع االمخابرات الغربي فقد كانت مساهِمةً ومستفيدة من هذا المصطلح إنتاجاً واستخداماً، بل وحاولت خلط الحقائق والمصطلحات باعتبارها صاحبة خبرة سباقة في كشف وإفشال الذئاب المنفردة، عارضة المساعدة على الشرطة البريطانية والأمريكية والفرنسية في أكثر من مناسبة، لتضفي شرعيةً على احتلالها وقمعها للشعب الفلسطيني باعتباره متماهياً مع ما تسميه أجهزة الاستخبارات والشرطة الغربية "الحرب على الإرهاب".
جاء نمر جمل صباح 26 /9 ليفرض علينا وعلى المحتل التفكير في حقائق حادة الوضوح: بمسدسٍ شخصي ورصدٍ ودراسةٍ وتنفيذٍ مُحكم اصطاد أربعة حراسٍ مدججين بالسلاح من داخل نقطة حراستهم، بينما هو يحمل مسدساً واحداً استخدمه بمنتهى الكفاءة والشجاعة. جاء نمر ليقول بأن الصهاينة لا يواجهون "ذئاباً منفردة" كما يشيعون، بل يواجهون مقاتلين كاملي الإمكانات، مقاتلون يملكون إيمانهم بقضيتهم ودوافعهم ولا يحتاجون لبنية هرمية جماعية تقرر وتمول وتخطط لهم، يختارون أهدافهم بعناية ويرصدونها، وينفذون بقدرةٍ عالية على التسلل والاقتراب، ويضربون بغتةً بشجاعةٍ وشراسةٍ وقوة فيفتكون بعدوهم في مَكمَنه ولا يتركون له مساحةً للرد، وعدوهم فاشل في "تحييدهم" على عكس ما يدّعي.
نمر وضع أمامنا مقارنة مختلفة تماماً، جعلنا أمام صيادٍ فريد يحمل اسمه، يصطاد طرائده منفرداً، مقاتل شامل كما يسميه المختصون في دراسته، يجيد اختيار الفريسة ومراقبتها واختيار موقع مهاجمتها، ويجيد التسلل إلى محيطها خلسةً دون أن تشعر، ويبدأ صيده بوثبةٍ مباغتة تضعه أمامها أو على مسافةٍ قريبةٍ منها فيبادر إلى قتلها بضربةٍ قاضية. النمر مقاتل كامل لا تنقصه القوة ولا الجسارة، وقوته لا تمنع خفته وهدوءه، ولا تمنع دقته وصبره ورويته وحسن تخطيطه. لقد صاغ لنا نمر نموذج المقاتل الذي يخرج من معركته منتصراً بنسبة أربعة قتلى لواحد رغم فارق السلاح والتدريب والتحصين، ففرض علينا أن نشتق من تجربته تسميتنا نحن لأولئك المقاتلين الذين يقررون ويخططون ويختارون هدفهم وينفذون بمنتهى الكفاءة والجسارة ليحققوا طموحات شعبهم وآماله، وليمنعوا انكساره في ذروة تعويل المحتل على إمكانية كسره، لنسميهم من اليوم فصاعداً المقاتلين النمور.
لقد كان نشأت ملحم مقاتلاً نمراً، وكان باسل الأعرج مقاتلاً نمراً، وكان الجبارون الثلاثة نموراً حينما أشعلوا شرارة هبة باب الأسباط، وكان الأسير البطل عمر العبد مقاتلاً نمراً حين بادر إلى تعديل الميزان في جمعة الرباط الثانية وليكرس أن الشعب الفلسطيني رغم فارق الإمكانات له نموره الذين يعيدون معادلة الخسارة البشرية إلى واحد لواحد حين يكون الأقصى مستهدفاً، واليوم بعد محاولة المحتل الانتقام من نصر باب الأسباط والتنكيل بمرابطات الأقصى ومرابطيه، وتشديد حصار القدس وخنقها، خرج نمر بيت سوريك ليصوغ المعادلة ذاتها من جديد، وليلحق بسلسلةٍ طويلةٍ قبله من النمور.
إن كان فينا من عقلٍ يفهم الدروس، ويبني على ما يصوغه الشهداء من معادلات، ويصنع من عقد تضحياتهم طريقاً صعباً نحو نصره، فدرس اليوم الواجب علينا فهمه والاحتفاء به وتكريسه هو أننا نموذج فريد من المحاربين، والاحتفاء بهم وتسمية تضحياتهم باسمها المناسب هو واجب وفاءٍ لهم، وواجب استدامة لنموذجهم، فهم المقاتلون النمور.