ضمن برنامج المرشد الشاب بنسخته الثالثة، أحد برامج جمعية برج اللقلق في القدس، زرنا قضاء بيسان، تعرّفنا فيه على جبال فقوعة، سهل جالوت، ووادي جماعين، وبعض آثار ومعالم المدينة.
في مدينة بيسان، المسماة بالعبرية “بيت شان”، والتي احتلت وهُجر أهلها عام 1948، توجد بعض الآثار من قبل الاحتلال الصهيوني، بعضها عثماني وبعضها إنجليزي (هذا بالإضافة إلى الآثار الرومانية وغيرها). أحد هذه الآثار هو محطة القطار الرئيسية في بيسان والتي تعود إلى العهد العثماني.
لفتت انتباهي محطة القطار، فبحثت أكثر عنها وجمعت المعلومات التالية مما توافر بين يدي من مصادر، وهي مجرد تجميع للمعلومات وصياغتها بطريقة متسلسلة، وليست بحثاً جاداً (انتبه إلى روابط الهايبرلينك فيها المزيد من المعلومات).
قبل الحديث عن محطة القطار في بيسان، نُعرّف قليلاً بخط سكة حديد الحجاز بشكل عام، والتي يكون خطّ حيفا- درعا الذي يمرّ في بيسان جزءاً منها.
نمت فكرة سكة حديد الحجاز في ذهن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، آخر سلاطين الدولة العثمانية (1876-1909)، وكان يحمل منها أهدافاً متعددة، أهمها الأهداف الدينية والسياسية (كان الناس يسمونها “السكة الحميدية” نسبة للسلطان عبد الحميد، كما ورد في رواية “الطنطورية” لرضوى عاشور).
كانت الفائدة من تنفيذ هذا المشروع الضخم هي تأمين طريق الحج للقافلة الشامية على وجه الخصوص، إذ أنها كانت تستهلك من موارد الدولة الكثير، عدا عن كونها القافلة الأهم من قوافل الحجيج. فعادة عندما تخرج القافلة من دمشق إلى المدينة المنورة يرافقها الجنود لحمايتها من قطاع الطرق، كما كانت الدولة العثمانية تدفع الأتاوات (الخاوة) للبدو لمساعدتها في حماية القافلة من قطاع الطرق، عدا عن الطريق الطويلة التي كانت تستغرق أربعين يوماً على الأقل، وما يتخلل ذلك من مصاعب في الطريق والظروف الجوية.
إضافة إلى الدافع الديني المرتبط بتسهيل طريق الحج إلى مكة المكرمة، هناك أسباب سياسية دفعت السلطان لطرح فكرة سكة الحديد، فقد كان السلطان عبد الحميد الثاني يحمل أفكاراً للوحدة الإسلامية يسعى من خلالها إلى جمع شمل الأمة الإسلامية تحت راية السلطنة العثمانية، ولا نفصل ذلك عن محاولته قمع الحركات القومية الانفصالية من جهة ، وسدّ الباب أمام الخطر الاستعماري الأوروبي من جهة أخرى، وهو ما أطلق عليه اسم “الجامعة الإسلامية” (طرح فكرة “الجامعة الإسلامية” المفكر جمال الدين الأفغاني، وتبناها عبد الحميد الثاني).
وبالتالي فإن شق سكة الحديد كانت إحدى الطرق التي اتبعها عبد الحميد الثاني لجمع شمل المسلمين تحت راية سلطنته وإثارة حماسهم وولائهم لها، ومحاولة استمالة المسلمين حتى لا يخرجوا عن حكمه. (كان “الشريف حسين” معارضاً لهذا المشروع، وعندما تحالف مع المستعمر الإنجليزي لمحاربة العثمانيين قام بمهاجمة سكة قطار الحجاز بالاتفاق مع الضابط الإنجليزي لورنس، وبناء على ذلك، توقف العمل في الخط الواصل بين دمشق والمدينة المنورة منذ الحرب العالمية الأولى).
ولا يمكن كذلك إهمال العائد الاقتصادي الذي يعود على السلطنة من هذا المشروع الضخم.
يقول الباحث في تاريخ حيفا جوني منصور في مقال له بعنوان: “دور سكة حديد الحجاز في تطور مدينة حيفا“:
(وقد احتاج السلطان عبد الحميد الثاني خطوطاً حديدية، كما احتاج في السابق إلى خطوط تلغراف، ليُحكِم قبضته على الولايات البعيدة عن مركز حكمه – أي استنبول – وليكون في إمكانه إرسال قوات عسكرية، عند الضرورة، لإخماد تمرد أو ثورة. وكذلك ليؤكد كونه مدافعاً عن الإسلام ديناً ودنيا من خلال اهتمامه بحركة الحج ..).
التبرعات من الأتراك والهنود والعرب لبناء السكة
بدأ العمل في إنشاء سكة حديد الحجاز بين الشام والمدينة في العام 1900، وانتهى العمل فيه في العام 1908. وأشرف عليه مهندسون عثمانيون وألمان. وقد اتبع مسار سكة الحديد نفس مسار قافلة الحج، وهو نفسه طريق الفتوح.
أما عن تكاليف إنشائها فقد كانت السلطنة العثمانية حينها منهكة الموارد بسبب ضعفها وانشغالها في الحروب وآخرها الحرب الروسية. لذلك أعلن السلطان عبد الحميد الثاني عن فتح باب التبرعات لتجميع تكاليف إنشاء السكة، وكان هو أول المتبرعين، فتبرع بـ 320 ألف ليرة ذهبية عثمانية.
وقد وجه السلطان عبد الحميد نداءً إلى العالم الإسلامي “من أجل القيام بالتبرعات، ونشرت الدعايات المكثفة، كما لجأت الحكومة العثمانية في حركة الإنشاء والدعاية هذه، إلى وجهاء المجتمع وكبرائه، وإلى أصحاب الدين والمشايخ وغيرهم من المدنيين.. وتم التركيز في هذا النداء على التسهيلات التي سيوفرها الخطّ خلال السفر إلى الأراضي المقدسة ..” (من كتاب الخط الحديدي الحجازي – هولاكو). وروي أن مسلمي الهند تبرعوا بخمسة ملايين روبية.
كما ابتدعت طرق متنوعة لجمع تكاليف إنشاء السكة، ومنها إصدار طابع بريدي إلزامي بقيمة قرش واحد على كل الطلبات التي تقدم إلى الدوائر الرسمية، يذهب ريعه إلى سكة الحديد. ومنها مثلا تحويل نصف ضرائب الحطب والفحم إلى ميزانية إنشاء السكة، وجمع جلود الأضاحي وبيعها لحساب الخطّ، وغير ذلك.
وقد بلغت تكلفة بناء السكة أكثر من أربعة ملايين ليرة عثمانية، وفي بعض المصادر أنه كلّف 5 ملايين ليرة. ويشير بعض الباحثين إلى أن هذا المشروع لم يتخلله أي فساد إداري أو مالي، وأن هذه التكلفة هي مبلغ ضئيل جداً إذا ما قارناها مع حجم المشروع والجهد المطلوب فيه. السرّ في ذلك كما يقول أحد المؤرخين، أن الجنود العثمانيين والمتطوعين الذين عملوا في السكة امتلكوا همّة عالية، وبالتالي تحقق الإنجاز بوقت أقصر وبتكلفة أقلّ.
يمكن الاطلاع أكثر على التفاصيل المالية في كتاب “الخط الحديدي الحجازي متين هولاكو“.
خطّ “حيفا – درعا”
هذا الخط هو جزء من مشروع سكة الحديد الحجازية، ويصل بين حيفا الفلسطينية ودرعا السورية، ومن درعا يمكن للمسافر التنقل إلى عمان ومن ثم المدينة المنورة جنوباً، أو إلى دمشق شمالاً.
افتتح الخطّ في الرابع من تشرين الأول أكتوبر عام 1905، وكان حفل الافتتاح في محطة حيفا، ويبلغ طوله من حيفا حتى درعا 161 كم، وهي مقسمة كالتالي: ضمن حدود فلسطين 88 كم، وهي المسافة بين حيفا وسمخ، وضمن حدود سوريا 73 كم وصولاً إلى درعا.
وقد كان لهذا الخط أهمية اقتصادية كبيرة، إذ أنه يربط الشام بميناء حيفا، فيُسهل تصدير منتجات سهل حوران نحو ميناء حيفا، ومنه إلى خارج الدولة العثمانية. وقد أدى هذا الخط إلى تطوير مدينة حيفا بشكل واضح، على كافة الأصعدة: صناعياً، وإدارياً، وسياحياً، وثقافياً، وقد استقبلت حيفا موجات هجرة من القرى الفلسطينية للعمل في سكة الحديد أو ميناء حيفا الذي انتعش بعد إنشاء الخطّ.
حتى انتهاء العهد العثماني، أو حتى انتهاء الحرب العالمية الأولى، كانت محطات هذا الخط هي: حيفا، وبلد الشيخ، وتل الشمّام، والعفولة، وبيسان، وجسر المجامع، ووادي اليرموك، وسمخ، والحمّة، وزيزون، وتل الشهاب، ومزيريب، ودرعا، أضيفت إليها محطاتٌ أخرى بعد الاستعمار الانجليزي لخدمة المستعمرات والكيبوتسات الصهيونية.
وهنا يمكن أن نرى كيف انقلبت فكرة السكة الحديدية من مشروع لتوحيد المسلمين والعرب، وبسط السيطرة العثمانية، إلى أداة بيد الاستعمار الانجليزي والصهيوني لقمع الثوار وملاحقتهم والسيطرة على المزيد من الأراضي. فقد استخدمت السكة الحديدية في فلسطين مثلاً ضدّ الثوار في الثورة الفلسطينية الكبرى، حيث كانت تنقل الجنود والعتاد، لذلك استهدفها الثوار عدة مرات وفجروا قاطراتها.
وقد وظّفت الحركة الصهيونية خطّ حيفا درعا لبسط سيطرتها على المزيد من الأراضي وإنعاش مستوطناتها في مرج بن عامر، الذي كانت قد وضعت يدها على مساحات واسعة من أراضيه. “واستخدمه اليهود لنقل مواد البناء لإقامة المستوطنات، وأيضا كوسيلة لنقل المهاجرين اليهود، ولا يقف الأمر عند ذلك، حيث استفادوا منه تجاريا ونقلوا فيه منتجات المستوطنات من الخضار والألبان والأجبان واللحوم التي تنتج فيها إلى حيفا ومنها إلى باقي المدن في فلسطين، و كان ذلك دورا عكسيا مما توخاه مؤسسي الخط العثماني، ومما توقعه العرب الفلسطينيون” (مقتبس من هنا). ولهذا نرى أن هناك محطات أخرى أضيفت في هذا الخطّ تحمل أسماء المستعمرات الصهيونية، مثل محطة الياجور.
محطة بيسان
هي المحطة الخامسة بعد حيفا، من بين المحطات العثمانية الأصلية. تقع محطة بيسان على بعد 59.2 كم عن محطة القطار في حيفا. وموقعها عند المدخل الشمالي لمدينة بيسان، وتعتبر المحطة قبل الأخيرة في هذا الخطّ قبل الخروج من الأراضي الفلسطينية (آخر محطة في فلسطين في خط حيفا – درعا، هي محطة قرية سمخ، وهي قرية فلسطينية مهجرة تقع جنوب بحيرة طبريا، وهي من القرى الجزائرية في فلسطين (القرى التي سكن فيها المهاجرون الجزائريون الذين وفدوا إلى فلسطين بعد الاستعمار الفرنسي للجزائر).
يقول الباحث جوني منصور في كتابه “ “الخط الحديدي الحجازي/ تاريخ وتطور قطار درعا – حيفا“:
(شكلت هذه المدينة “بيسان” موقعا مركزيًا وأساسيًا ضمن شبكة محطات الخط الحديدي درعا ـ حيفا. وكان السلطان العثماني عبد الحميد الثاني قد نقل أراضي بيسان إلى ملكيته المباشرة وعُرفت بأراضي “الجفتلك”. وحاول موظفو وخبراء السلطان إصلاح هذه الأراضي من خلال تقديم تخفيضات ضريبية للسكان وإعفاءات من الخدمة العسكرية لمزارعي المنطقة والسبب الذي دفع هذا السلطان إلى اتخاذ هذه الخطوات عدم نجاح فلاحي منطقة بيسان في استغلال كميات المياه في أراضيهم.
واعتقد السلطان أن مشروع مد سكة الحديد من درعا إلى حيفا مرورا في بيسان سيساهم في تطوير هذه المدينة اقتصاديًا. لهذا تم تشييد محطة كبيرة في بيسان. إلاّ أن مشاريع وخطوات السلطان عبد الحميد الثاني لم تؤت أُكلها، فبقيت المنطقة فارغة وشبه خالية من السكان أو التطور الزراعي إلى حين قدوم الحركة الاستيطانية اليهودية التي ساهمت في تطوير مستوطناتها وتحسين الأراضي التي تملكتها وجعلها مناسبة لزراعة محاصيل خاصة بتربة ومناخ المنطقة. المحطة ذاتها موجودة على “طريق البحر” الواصل بين مجيدو (تل المتسلم) وبين غور الاردن. ومقابل المحطة كان الخان الأحمر المملوكي. لهذا فإن موقع المحطة مركزي وهام واستراتيجي للغاية).
الخطّ اليوم
توقف الخطّ – في قسمه الفلسطيني – عن العمل منذ العام 1951، ولكن ما زالت بعض آثاره موجودة في فلسطين، يمكن مثلا زيارة مباني لمحطة المتبقية في تل الشمام وسمخ وبيسان وغيرها.
وقد قامت وزارة المواصلات الصهيونية بإنشاء خط سكة حديدية جديدة تسير بنفس مسار خط حيفا – درعا، إلا أنها تنتهي في بيسان، وأطلقت عليه “قطار المرج”، لأنه يمرّ في أراضي مرج بن عامر (لم يستخدم العرب هذا الاسم، وانما استخدمه المستوطنون فترة الانتداب البريطاني). وهذا الخطّ لا يسير في نفس محطات الخطّ العثماني، ولكنه يسير بمحاذاته، أو في خطّ قريب منه، وقد أنشأت في العفولة وفي بيسان محطات حديثة لخدمته.
افتتح الخطّ في 17 تشرين الأول أكتوبر 2016، باحتفالية واسعة، شارك فيها وزير المواصلات الصهيوني ومدير شركة القطارات. وقد أعلن عن أن السفر فيه مجاني في أول 4 شهور.
أما الداعي لإنشاء هذه السكة من جديد على يد الاحتلال، فهو متصل بالجهود لتعميق التعاون الاقتصادي الصهيوني – العربي، الأردني والخليجي بشكل أساسي (وزير المواصلات الصهيوني قال في آب 2016 أن هذا القطار سيشكل جسراً لدول الخليج نحو البحر المتوسط). فقد تحوّل ميناء حيفا إلى وجهة مفضلة للمستوردين العرب من الأردن والخليج العربي، بعد أن أصبح الاعتماد على ميناء اللاذقية محفوفاً بالمخاطر والخسائر بعد الثورة السورية عام 2011.
منذ ذلك الحين، أصبحت الأردن بشكل أساسي تعتمد على تصدير منتجاتها أو استيراد ما تحتاج من بضائع عن طريق ميناء حيفا، ومن ثم تنتقل البضائع إلى جسر الشيخ حسين، شمالي بيسان، ومن هناك إلى المناطق الصناعية في عمان وإربد. وبالتالي فإن وجود القطار في ذلك المسار يعزز من العلاقات الاقتصادية مع الكيان المحتل، ويزيد من حجم التبادل التجاري.
وليس ببعيد عن ذلك، الأحلام الصهيونية بمدّ سكك الحديد هذه بسكك تماثلها وتقابلها في دول العرب، وما يرافق ذلك من تعزيز الاختراق الصهيوني للعالم العربي، ومد نفوذه إلى قلب المدن العربية. وهذه الأحلام يمكن أن نقتنصها من خلال عناوين الصحف والتصريحات الصهيونية عقب افتتاح الخط، والتي تعكس شعوراً بأن “إسرائيل” هي وريثة الدولة العثمانية في السيطرة على الأرض، والتأكيد على أنه بعد أكثر من 60 عاماً “ها هي إسرائيل تعيد بناء السكة وتبني المجد من جديد”.
وفي نيسان أبريل 2017، طرح وزير المواصلات الصهيوني يسرائيل كاتس خطة جديدة يقترح فيها ربط “قطار المرج” بمدينتي جنين وعمان، مطلقاً عليها اسم “خطة السلام الإقليمي”،وقال في تصريح صحفي حينها: “سنقوم بإنشاء خطوط تجارة قصيرة ومنخفضة التكاليف وأكثر أمناً، نربط بعض الجهات في المنطقة التي لا تملك منفذاً مائياً، وبهكذا نساهم في بلورة المحور البراغماتي مقابل المحور الشيعي بقيادة إيران”.
اقرأي المزيد عن العلاقات التجارية الاقتصادية بين الكيان والأردن هنا
هذا الفيديو قد يفيد كذلك.
ملاحظة: لم يتسنَ لي تصوير المحطة بشكل جيد، لأننا مررنا سريعا من هناك