مع قدوم اللجنة الملكية إلى فلسطين للتحقيق في الأحداث والنظر في مطالب الفلسطينيين، ثم مغادرة فوزي القاوقجي فلسطين ومعه مجموعة من قيادات الثورة دخلت فلسطين في حالة قريبة من الهدنة "شبه هُدنة" إلا أن الأمور لم تعد إلى ما كانت عليه قبل بدء الثورة.
وعلى الرغم من أن المؤرخين يسمون هذه المرحلة الممتدة بين نهاية العام 36 واغتيال أندروز حاكم الجليل في أيلول من عام 1937 بـ"مرحلة الهُدنة"، إلا أن مُعطيات الأرض تشير لاستمرار الروح الثورية في المجتمع وعدم توقف العمليات إطلاقاً طوال تلك الفترة وإن كانت القيادات السياسية قد أعلنت الهدنة، وطالبت عبر بياناتها الالتزام بالهدنة، إلا أن وقائع الأرض لم يتغير، ويجوز القول أنها مرحلة "شبه الهُدنة"، فلا المقاومة ظلت كما فترة الإضراب ولا هي توقفت بالكامل.
واستمرت عمليات المجاهدين، كما يُشير الأستاذ أكرم زعيتر في يومياته، "إن الاضطرابات منذ انتهى الإضراب لم تنقطع كلياً وان ظلت لا تعدو هجمات متقطعة على مستعمرات، وغارات على مخافر في أماكن مختلة، وعمليات تأديب مثل عمليات النسف والقنص والاغتيالات".
ويشير في موضع آخر من يومياته: "وما يدل على أن نار المقاومة في النفوس لا تزال تتأجج لم تخمدها بيانات التهدئة والآمال التي يعقدها الكثيرون على اللجنة الملكية".ولو أردنا استعراض أهم محطات العمل الثوري في هذه المرحلة فإنها أخذت طابع "العمل الفردي" مقارنة بما كانت عليه الأمور قبل توقف الإضراب، وهناك عشرات العمليات المهمة التي جرت في هذه المرحلة لكنها فردية وليست ضمن العمل الثوري للفصائل المنظمة والمندرجة تحت القيادة العامة للثورة.
ومن بين ما يُمكن تسجيله كأحداث فارقة خلال هذه الفترة بالإضافة للعمل الفردي هو عمليات الاغتيال والاستهداف المباشر لضباط الانكليز وجنودهم والمتعاونين معهم ضد الثورة من العرب، والتربص باليهود الوافدين للبلاد واستهدافهم بالرصاص بشكل مباشر.
ومن بين عمليات الاغتيال التي حدثت خلال هذه الفترة والتي تُنسب في تنفيذها لجماعة الكف الأسود وهم من تلاميذ الشيخ عز الدين القسام، جاء اغتيال يوسف جليلة وهو أحد المتعاونين مع اليهود وممن شهد ضد رفاق القسام في قضية نهلال، ثم اغتيال الشرطي سليم فرج وهو ممن شهد أيضاً في حادثة نهلال ضد جماعة القسام، واغتيل فريد أبو العيون المخبر السري في سوق طولكرم.
وكان اغتيال الضابط حليم بسطة نائب مدير الشرطة في اللواء الشمالي من أبرز عمليات الاغتيال التي جرت على يد الكف الأسود، وحليم بسطة من أشد أعداء الثورة وممن تتبع الشيخ عز الدين القسام وأساء لجثمانه عند استشهاده، وكان قد نجا من عدة محاولات اغتيال، إلا أن الرصاصات التي أطلقت نحوه يوم 15/4/1937 كانت قاتلة.
وتم اغتيال أحد أفراد الشرطة في أحد مقاهي طولكرم، بالإضافة لمحاولة اغتيال مفتش الشرطة في صفد فأصيب ونجا من الموت.
وجرت محاولة هي الأهم لاغتيال مدير الأمن العام البريطاني المستر سبايسر بتاريخ 13/6/1937، حيث باغته ثلاث من الثوار بلباس فلاحين فأطلقوا عليه النار عن قرب، فلم يصب بأذى فيما أصيب الكونستابل البريطاني الذي كان يقود السيارة.
وجرت محاولة لاغتيال المستر فرادي مساعد مدير شرطة الناصرة المعروف بشراسته وعدائه للعرب، لكنه نجا منها.
وجرت محاولة فاشلة لاغتيال فخري النشاشيبي لاتهامه بالعداء للثورة وبأنه دفع باتجاه اغتيال قادة العمل الوطني أمثال ميشيل متري رئيس جمعية العمال العرب في يافا.
واستهدفت الثورة وتنظيم الكف الأسود عشرات السماسرة وتجار الأراضي والمتعاونين مع الاحتلال في كافة المدن وكذلك بعض اليهود ممن يشترون هذه الأراضي، حتى صارت الاغتيالات سمة بارزة في هذه المرحلة من الثورة.
أما المعارك والعمليات فأهمها هجوم الثوار على مركز شرطة مدينة الخليل بتاريخ 6/2/1937 والاستيلاء على البنادق والذخيرة، والسطو على مخزن الأسلحة في كفر سابا والاستيلاء على كامل الأسلحة التي فيه، وجرت معركة بين مسلح ودورية للانكليز في جبال عزون تمكن من إصابتهم والفرار.
ووقعت مواجهات في طبريا، وأطلقت النيران على عشرات المستوطنين اليهود في المستوطنات والمدن والمزارع الواقعة بالقرب من القدس وبيسان وعكا وصفد وكفر سابا ومنطقة الجليل وحيفا.
وجرت معركة عند نهر الأردن وأخرى في بلدة يطا بتاريخ 5/6/1937 وتم مهاجمة مركز الشرطة حينها، بالإضافة لعشرات المعارك والأحداث الفردية. وكذلك تم قطع أسلاك الهاتف والكهرباء وتدمير الطرق لعشرات المستعمرات الصهيونية في أنحاء متفرقة.وقد سعت حكومة الاحتلال للتغلب على هذه الحالة باستبدال قائد جيشها في فلسطين والإعلان عن مكافئات مالية لمن يقدم معلومات حول قتلة جنودها وضباطها، وأصدرت قرارات بالإعدام والسجن والنفي وهدم بعض المنشئات، وظلت سياستها تجاه الثورة والفلسطينيين واضحة في قسوتها وصلابتها.
ولم تنتهي هذه المرحلة إلا باغتيال حاكم الجليل حيث انطلقت الثورة مُجدداً بنفس قوي لا مثيل له.