رام الله - خاص قدس الإخبارية: بين أزقة مخيم قدروة، يواصل ناصر ورفاقه الجري وعلى أكتافهم جثمان شهيد، قنبلة غاز أخرى تنفجر بين أقدامهم لتنبأهم باقتراب جنود الاحتلال خلفهم، خطواتهم تسابق بعضها، ولا وقت لإلتقاط الأنفاس حتى.
زخات من الرصاص الحي تطلق صوبهم مجددًا، يدخلون إحدى المنازل القريبة، يستنفر أصحابه ويفتحون لهم المدخل الآخر ليمروا، ينضم جزء منهم إلى الشبان، ويحاول الجزء الآخر عرقلة جنود الاحتلال.
20 آذار 1992، على سور مستشفى رام الله أو كما أطلق عليه حديثا "مجمع فلسطين الطبي"، جثمان شهيد معلق على أيدي مجموعة شبان، الشبان انقسموا إلى ثلاث مجموعات، مجموعة ترفع الجثمان، مجموعة على السور تلتقطه، ومجموعة ثالثة على الناحية الثانية من السور حيث سيهربون به.
يعيد ناصر العزة تشغيل فيديو تهريب الشبان جثمان الشهيد محمد أبو غنام عن سور مشفى المقاصد بالقدس في 21 تموز من العام الحالي، يغلق هاتفه الذكي، "التاريخ يعيد نفسه مجددا.. هكذا تماما كنا نفعل".
مخيم قدورة ومعركة حماية الجثامين
مخيم قدورة الذي يتوسط مدينتي رام الله والبيرة، بعيدا عن أي نقطة احتكاك مباشرة مع قوات الاحتلال، تحول مع اندلاع الانتفاضة الأولى إلى نقطة حرب، فشبان المخيم باتوا خط الدفاع الأول والأخير عن جثامين الشهداء التي تصل مستشفى رام الله الواقع داخل المخيم، وكان شعارهم، "لن يأخذوا أي جثمان إلا بقتلنا".
يقول ناصر العزة لـ قدس الإخبارية، "كنا نخاف على الشهيد.. كنا نخاف عليه من الاحتجاز في ثلاجات الاحتلال، كنا نخاف أن تُسرق أعضاؤه الداخلية، كنا نخاف أن تسرق قرنيات عيونهم".
كمعظم شباب مخيم قدورة، شارك ناصر العزة بتهريب جثامين الشهداء، وأخذ على عاتقه تهريب جثمان الشهيد حسني عبد الرؤوف عياد وتوصيل جثمانه إلى عائلته في بلدة سلواد شرق رام الله، "جثمان الشهيد كان أمانة لدينا حتى نوصله لأهله".
بعد ارتقاء الشهداء خلال اشتداد المواجهات، كانت قوات الاحتلال تطوّق مستشفى رام الله محاولة اقتحامه، "كل شباب مخيم قدورة وشباب مدينة رام الله والقرى المجاورة كانوا يتوافدون لحماية المشفى وصد الاقتحام وإفشال أي محاولة تسعى لخطف جثامين الشهداء".
كتهريب باقي جثامين الشهداء، لم يكن تهريب جثمان الشهيد حسني بالأمر السهل، محاولة محفوفة بملاحقة قوات الاحتلال التي بذلت كل الجهود لخطفه، "كان لابد من إكرام حسني بتوصيل جثمانه إلى أهله، كما جاء مدافعًا ومقاومًا ومناضلًا من أجل هذا الوطن".
تهريب جثمان الشهيد حسني عياد
فخلال اقتحام قوات الاحتلال المشفى، كان الشبان يحملون جثمان الشهيد حسني فوق السور قبل أن يبدؤوا بحمله ونقله من بيت لبيت داخل المخيم حتى تم تأمين مركبة لنقله إلى سلواد، "أجلسناه في المقعد الخلفي وكأنه ما زال على قيد الحياة، وأسندناه من الجانبين (..) كانت الحواجز في كل مكان، وكانت سلواد مطوقة بالكامل".
حمل ناصر ورفاقه جثمان الشهيد حسني ومشوا في الكروم والجبال حتى لاقوهم شبان القرية في عين يبرود وسلواد، وبعد خمس ساعات من محاولات تهريب جثمان الشهيد حسني من رام الله التي تفصلها ربع ساعة عن مسقط رأسه سلواد، وصل الجثمان بنجاح إلى البلدة، لتودعه عائلته وتطبع قبلاتها الأخيرة على وجنتيه، قبل أن يوارى الثرى سريعا في مقبرة شهداء البلدة، خوفا من وصول قوات الاحتلال التي كانت ما تزال تلاحق جثمان الشهيد.
لا يقل عن 15 من جثامين الشهداء، استطاع شبان مخيم قدورة تهريبهم من مستشفى رام الله، يبين ناصر لمراسلة قدس الإخبارية،أن مجموعة من الشبان كان تقاوم وتواجه قوات الاحتلال، ومجموعة أخرى تخصصت فقط في حماية المستشفى من الاقتحامات، إذ كانت ترابط ليلًا نهارًا في محيط المستشفى وعلى مداخله، "سلاحنا الوحيد حينها كان الحجارة".
أحبط الشبان الكثير من محاولات الاحتلال خطف جثامين الشهداء، فيما يذكر ناصر أن قوات الاحتلال استطاعت في إحدى الأيام اقتحام المستشفى واختطاف أكثر من جثمان، من بينهم شهيد من قرية عين يبرود ملقب بـ "أبو فلسطين".
يعلق ناصر لـ قدس الإخبارية،"الكثير من الجثامين عندما عادت من ثلاجات الاحتلال، كان يظهر عليها علامات التشريح وسرقة الأعضاء، هذا ما جعلنا ندافع بكل قوة عن الجثامين ونمنع خطفها".
الاحتلال يلاحق المهربين
بالقنابل الغازية والصوتية والرصاص كانت تلاحق وحدة المشاة من قوات الاحتلال الشبان الذين يهربون جثامين الشهداء، ولم تكن تتوانى عن ملاحقتهم في المنازل وإطلاق القنابل داخلها، وهو ما أدى في التاسع من شباط 1988 لاستشهاد حسن خليل العزة والد ناصر، إضافة لابن شقيقه.
يروي ناصر لـ قدس الإخبارية، "أطلقت قوات الاحتلال وابلًا من القنابل الغازية معتقدين أن الشباب الذين يحملون جثامين أربعة شهداء، داخل منزلنا (..) ارتقى حينها أبي وابن شقيقي مختنقين بالغاز".
كما استخدم الاحتلال طيرانه في ملاحقة الشبان واعتقالهم، ويذكر ناصر كيف كانت طائرات الاحتلال تصطاد الشبان عبر إلقاء "شبكة" عليهم ثم سحبهم إلى داخل الطائرة، وقد اعتقل أحد الشبان خلال مساعدته بتهريب جثمان أحد الشهداء، حسب شهادة ناصر.
المجموعة التي تشكلت عفويا وتلقائيا لتهريب جثامين الشهداء، كان يعلم كل واحد فيها أنه قد لا يعود إلى منزله هذا اليوم إلا شهيدا، "لم أتوقع يوما أني سأحيا حتى هذا اليوم، كنت أخرج من البيت وأنا على يقين أنني قد أعود شهيدا (..) كلنا كنا على استعداد أن نصبح شهداء في سبيل حماية الشهداء الذين على أكتافنا".
نجاح تهريب جثامين الشهداء لم يكن بين مدينة رام الله وقراها فقط، بل امتد لمسافات أطول بين المدن الفلسطينية، كالمسافة بين بلدة بيرزيت شمال مدينة رام الله إلى مدينة رفح جنوب قطاع غزة.
تهريب جثمان الشهيد موسى الحنفي
13نيسان 1987، اشتدت المواجهات في محيط جامعة بيرزيت بعد مداهمة قوات الاحتلال بهدف قمع فعالية طلابية، ليسقط موسى الحنفي وقد أصيب برصاصة مباشرة في الرقبة، وما هي دقائق حتى ارتقى إثرها شهيدا.
بين منازل بلدة بيرزيت بدأ الشبان بتهريب جثمان صديقهم الشهيد، فيما خيمت أجواء الغضب والحزن على البلدة لتصل مؤشرات للاحتلال أن شهيدًا ارتقى برصاصه، وتبدأ قواته بعمليات المطاردة والبحث عن جثمان الشهيد الذي يحاول الشبان إخفاءه.
موسى الحنفي الذي ولد بعد شهور قليلة من استشهاد عمه، لم يرث اسمه فقط، بل ورث عن تفاصيل حكاية سيصبح المسؤول عن روايتها بلا ملل لكل من يطلب الاستماع إليها، خاصة أنه جمع بعض التفاصيل ممكن شاركوا بتهريب جثمان عمه بعد وصوله إلى قطاع غزة.
يقول موسى لـ قدس الإخبارية، "بدأ الشباب بنقل جثمان عمي من مكان إلى آخر، وحسب ما وصل للعائلة أن أول شاب نقله، اعتقل فيما بعد وأصيب بالشلل خلال التحقيق معه".
استنفار قوات الاحتلال وانتشارها في بيرزيت، أكد للشبان سعي الاحتلال لاختطاف جثمان الشهيد موسى ما زادهم إصرارا وتحديا التصدي لأي محاولة قد تودي بجثمان الشهيد إلى ثلاجات الاحتلال، "الشباب زادو عنادة وإصرارا (..) كل الجهود تثمن لدورهم في حماية جثمان الشهيد وإعادته إلى رفح".
تهريب جثمان الشهيد حنفي لم يشارك به أصدقاؤه فقط بل انضم أساتذته أيضا، فيبين موسى لـ قدس الإخبارية، أن المعلومات التي وصلت العائلة تؤكد على أن الدكتور ابراهيم أبو لغد كان له دور كبير في تهريب جثمان الشهيد.
"كان الشهيد طالبا مجتهدا ومتفوقا إضافة لنشاطه الطلابي، كما كان محبوبا لأساتذته وزملائه (..) وكان لعمي موسى مكانة مميزة لدى الدكتور ابراهيم أبو لغد الذي ساعد بنقله بمركبته الخاصة".
من بيرزيت إلى رفح
في المقعد الخلفي من المركبة وضع الشهيد الحنفي وقد أُلبس نظارة سوداء ووُضع على رقبته وشاحا لإخفاء الإصابة، وأسند جثمانه اثنين جلسا على جانبيه، يقول الحنفي لـ قدس الإخبارية،" على حاجز إيرز، أوقفت قوات الاحتلال المركبة التي تقل جثمان الشهيد (..) وعند سؤال جنود الاحتلال عنه، قال له الشبان أنه مريض ويغط بالنوم لتمر المركبة ويصل الجثمان قطاع غزة".
جثمان الشهيد الحنفي لم يصل بر الأمان بعد، فجنود الاحتلال استنفروا أيضا في القطاع متوقعين أن يصل الجثمان في أية ساعة، فيما بدأت مجموعة جديدة من ضمنها أحمد نصر -محافظ مدينة رفح حاليا- بتنقيل الجثمان من مركبة إلى أخرى عبر الطرق الملتوية بين المنازل والبيارات وصولا إلى خانيونس.
"في مركبة أحمد نصر من نوع بيجو 504، نقل جثمان عمي الشهيد، إلا أن الأمر زاد تعقيدا بعد وصوله إلى خانيونس، فحواجز الاحتلال تطوق مدينة رفح التي تبعد ربع ساعة فقط عن خانيونس".
قوات الاحتلال لم تفارق منزل عائلة الشهيد الحنفي، طوقته واقتحمته عدة مرات قبل أن تنسحب بضغط من الجموعة الغاضبة التي بدأت بالتجمهر، "اعتقلت قوات الاحتلال جدي وحققت معه ثم اعتقلت والدي وأخضعته للتحقيق أيضا، فيما تواصلت المواجهات والمناوشات بين أهالي رفح التي تنتظر وصول الجثمان، وقوات الاحتلال التي تتحضر لخطفه".
محاولة خطف الجثمان من التشييع
لم يفقد الشبان الأمل، فمجموعة جديدة من رفح أخذت على عاتقها استلام الجثمان وحماية وتوصيله لعائلته، لتخترق حواجز الاحتلال وصولا إلى حارة سدود في منطقة الشابورة، بالقرب من مسقط رأس الشهيد.
أثناء نقل جثمان الشهيد عبر حواجز الاحتلال من بيرزيت إلى رفح، كانت والدته تبحث عنه في بيرزيت، "خلال تواجدها في السوق، وصل الخبر إلى جدتي عبر المذياع، وعلى الرغم أن الاسم كان خطأ إلا أنها اتبعت حدسها وذهبت مباشرة تبحث عن عمي".
بعدما فقدت الأمل من ايجاد جثمان نجلها، جمعت حفنة التراب التي ارتقى فوقها شهيدا وعادت بها إلى رفح - حفنة تراب ما زالت تحتفظ بها حتى الآن، "حضر أحد الشبان وهمس في أذن والدي وأخبره أن جثمان الشهيد في بيارة خلف ملعب برقة، واقتاده هناك حيث نقلوه إلى المنزل".
بعد أكثر من 10 ساعات، وصل جثمان الشهيد منزله حيث وُلد ونشأ وتربي، إلا أن والدته لم تصل بعد، لتطبع فيما بعد قبلاتها الأخيرة على وجنتيه وتودعه حيث سيوارى الثرى في مقبرة الشهداء في مدينة رفح، "انطلقت الجموع الغاضبة بالتشييع فيما حاصرتها قوات الاحتلال وبدأت بقمعها".
سبع إصابات على الأقل وقعت خلال قمع قوات الاحتلال تشييع جثمان الشهيد حنفي، إلا أن قوات الاحتلال فشلت باختطاف جثمان الشهيد من بين أيدي آلاف المشيعيين.
الشهيد يعود حيا
عائلة الشهيد الحنفي ومذ انتشار فيديو تهريب جثمان الشهيد محمد أبو غنام في القدس، وقد تفتحت الجراح في قلبها من جديد، وهي تستعيد تفاصيل تهريب جثمان نجلها موسى، "قصة عمي الشهيد موسى لا تغيب عن أذهاننا وأحاديثنا، إلا أن انتشار فيديو تهريب جثمان الشهيد أبو غنام أحياها من جديد داخلنا وأثر بنا كثيرا".
موسى منع أفراد عائلته من فتح الفيديو أو الحديث عن أمام جدته التي ورغم مرور 29 عاما على استشهاده، إلا أنها لم تعتاد على فراق نجلها حتى اليوم، "جدتي حتى اليوم تبكي عمي وتفتقده وكأنه استشهد بالأمس"
في منزل الجدة، يوجد خزانة تسمى "خزانة الشهيد موسى" تحتفط الجدة داخلها، حفنة من التراب التي ارتقى عليها، ملابسه، كتبه، قصاصات الصحف التي تتحدث عن استشهاده، حتى الغطاء الذي شيع فيه وما زال عليه دمائه.
للشهيد موسى سبعة أشقاء، كل واحد منهم أطلق على واحد من ابنائه اسم عمي الشهيد موسى، يقول موسى، "كنت الحفيد الأول بالعائلة، فور ولادتي أخذني أبي إلى قبر عمي الشهيد، وهمس لعمي وبشره بقدومي".
سياسة حجز جثامين الشهداء
تحتجز سلطات الاحتلال 249 جثمان شهيد وشهيدة في مقابر الأرقام، هو رقم غير دقيق، ولكنه ما استطاعت المؤسسات توثيقة حتى الآن، ورغم أن بعض البيانات تشير إلى أن أقدم شهيد محتجز منذ الستينيات، إلا أن معلومات أفادت بها عائلة الكرداسي، تؤكد على أن الجد محمد حسن الكرداسي من مدينة يطا قضاء الخليل، والذي ارتقى في معركة مع الاحتلال عام 1949، قد يعد من أقدم الجثامين المحتجزة.
منسقة الحملة الوطنية لاستعادة جثامين الشهداء سلوى حماد لـ قدس الإخبارية، أن الاحتلال ومذ وقوعه وهو يتبع سياسة حجز الجثامين، حيث كان يدفن جثامين الشهداء في المقابر الجماعية دون العودة لأهلهم أو إبداء أي معلومات حول مكان دفنهم.
وعلى الرغم أن قضية احتجاز جثامين الشهداء ظهرت بعد انتهاء الانتفاضة الأولى، إلا أن حماد تؤكد على أنه الفترة 1987-1990 شهدت انخفاض بعدد الجثامين المحتجزة، إذ قد يعود السبب بذلك إلى نجاح الفلسطينيين بتهريب جثامين الشهداء وتكريمها.
وبينت أن الكثير من القضايا رفعت في المحاكم الإسرائيلية لإسترداد جثامين الشهداء المحتجزة إلا أنها وصلت إلى طرق مسدود، فيما استطاعت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحزب الله استعادة عدد من الجثامين عبر صفقات التبادل.
وفي عام 2008 ومع انطلاق الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء، بدأت القضية تأخد صدى واسع محليا، وبدأ الأهالي والتنظيمات وأصحاب ورفقاء الشهداء بتقديم شهاداتهم حول احتجاز الشهداء.
ويعد تحرير واستعادة جثمان الشهيد مشهور العاروري عام 2010 بعد 34 عاما من احتجازه، ثم تحرير جثمان رفيقه حافظ أبو زنط في 2011 بعد 35 عاما من احتجازه، دفعة معنوية جديدة لإستعادة باقي جثامين الشهداء.
وأوضحت حماد أن العدد المتداول - 249 جثمان شهيد محتجز- ليس العدد النهائي والمؤكد، والعدد يبدو أكبر بكثير من ذلك، وخاصة أن الاحتلال دفن الكثير من الجنود العرب خلال المعارك في مقابر أرقام على الحدود مع سوريا ولبنان والأردن، حيث يرى هناك عدد من شواهد القبور التي تحمل الأرقام والرموز.