أولا، نؤكد على ما قاله الأستاذ خالد عودة الله بأن جوهر الصراع في المسجد الأقصى هو صراع إرادات، ودليل ذلك أنْ حاول العدوّ إجبار الناس العبور من البوابات الالكترونية وهي معطلة وغير موصولة بالكهرباء: "المهم أن يخضع الناس لأرادة العدو، هذه هِي المعركة وهذا هو التحدي".
وعلى سبيل المثال، لم تمنع الـ 1257 كاميرا أمنيّة المثبتة في مدينة "نيس" الفرنسية الهجوم الذي أودى بحياة 86 شخصاً، لكن، يجب الاعتراف كذلك بأن هذه الكاميرات لم تكن آنذاك مزودة بـ "تكنولوجيا التعرّف على الملامح" (Facial Recognition System) التي يدور الحديث الآن عنها في كاميرات القدس. (على الهامش، اقتنص كريستيان ايستروزي رئيس بلدية نيس السابق الحادث للهجوم على كل منتقدي تغوّل سلطته الأمنية في نيس، وطالب بتزويد بلديته بهذا النظام الذي ادعى بأن امتلاكه كان ربما ليمنع العملية نظراً لأن منفذ الهجوم معروف سابقاً لدى الشرطة وموسوم بوسم "س" أي خطير جداً).
ثانياً: تكنولوجيا التعرف على الملامح هي بيومترية (علم المقاييس الحيوية) مؤتمتة تقوم على مبدأ كشف هويات الأشخاص من خلال فحص لملامح وجوههم: كالمساحة بين العينين، حوافّ الأنف، زوايا الفم والأذنين والذقن، إلخ. ثمّ بتحليل هذه الملامح ومقارنتها مع قاعدة البيانات المتوفرة.
دون الغوص في تاريخ هذه التكنولوجيا، وصلت أنظمة التعرّف على الملامح اليوم إلى مستويات عالية من التطور، ويعزى هذا بالتأكيد إلى اعتمادها منهجيات أخرى للتحليل جنباً إلى جنب مع البيومترية، وعلى قاعدة بيانات أضخم من السابق. هنا، يقول خبير "الهاي-تيك" في فضائية BFM الفرنسية فريديريك سيموتيل إن هذه الأنظمة لا تقف اليوم عند حدود تحليل الصور، وإنما باستطاعتها أن تدرس تصرفات الأشخاص (human behavior)، وأن تكتشف بالتالي التصرفات الغريبة، مثلاً: أن يبقى الشخص ثابتاً في مكانه لمدة طويلة، أو أن تظهر عليه علامات التوتر، أن يترك حقيبة على الأرض، إلخ. الجديد طبعاً في هذه الأمور أنها أصبحت اليوم بيد برامج الكترونية تقوم بها.
جانب آخر من تطوّر هذه التكنولوجيا يمكن ملاحظته في أجهزة الاستشعار ثلاثية الأبعاد (بالتالي، تعرّف أكثر دقّة على الملامح. خطأ أقل)، والقدرة على التعرف على الملامح أثناء الحركة وهو ما أشرنا إليه للتوّ، والمعالجة انطلاقاً من ملفات شخصية (profiles) للأشخاص والقدرة على تحديث النماذج القديمة.
بحسب شركة "مورفو" المتعاقدة مع مكتب التحقيقات الفيديرالي الأمريكي والمسؤولة عن تطوير هذه التكنولوجيا في قطاع الأمن في أمريكا وفرنسا ودول أخرى حول العالم، هناك ثلاثة عوامل أساسية لنجاح هذه المنظومة الأمنية:
1- جودة الصورة: تعتمد جودة الصورة على موقف الفرد المسبق من هذا النوع من الكاميرا، وبالتالي وعيه وإرادته، وعليه، هناك من يرفض التعاون معها (نظارات شمسية، قبعة، شفط الأنف، تسكير جزئي للعينين، إلخ...)، وهناك من يقبل طوعاً أن تلتقط الكاميرا وجه بكل حرية.
2- خوارزميات فحص الهوية: أي مدى قوة الخوارزميات المستخدمة في دراسة أوجه الشبه بين ملامح الأوجه (الطول، شكل الأنف، زوايا الفكّ، إلخ...).
3- قاعدة البيانات المتوفرة: للتعرف على صورة ما، يتوجب علينا مقارنتها بصورة أخرى. وبالتالي، دقة التعرّف على الملامح تعتمد بشكل أساسي على حجم وجودة قاعدة البيانات التي يتم مقارنة المعلومات الواردة من الكاميرات بها، وفي حالتنا الفلسطينية، لا يمكن تخيّل أكبر من قاعدة بيانات لشعب دخل منه السجن أكثر من مليون شخص، بالإضافة إلى قاعدة بيانات تسجيل السكان المُوحدة في كل فلسطين ومن ضمنها مناطق الحكم الذاتي للسلطة.
ما يجب التأكيد عليه دوماً هو أنّه مهما بلغ الاستعمار من قوّة وتطوّر تكنولوجي ومن نفوس البعض، يبقى هذا كلّه منوط بإرادة كلّ واحد فينا، فلا عجب أنّ نفضة كنفضة عمر العبد وفرسان دير أبو مشعل الثلاثة تعيد هذا المشهد إلى ألفه وبائه. (وللعلم، عندما تُضرب لدينا منطقة "التلفيف المغزلي" (fusiform gyrus) في الدماغ، وهي المسؤولة عن قدرتنا على التعرف على الأشياء، نصاب بمرض يدعى "عمى تعرف الوجوه" (Prosopagnosia)، وللتعافي، سيتوجّب علينا إعادة تعلّم استراتيجيات التمييز التدريجية من الصفر، أو ما يعرف بـ "استراتيجية ميزة بميزة" كاللباس والمشي ولون الشعر وهيئة الجسم والصوت، إلخ.).
في الختام، من المهم هنا التنبيه إلى أن دور تقنيات المراقبة بالتصوير، لا يقتصر على الكشف والإنذار، وإنما دورها الأساسي هو استدخال السيطرة الاستعمارية في عقل الفلسطيني ليشعر دائماً بأنه مكشوف، وفِي حالة الكاميرات الذكية بأن نواياه مكشوفة وليس فقط وجوده وتحركاته.