لقد غدا البوح في حاضرة القدس الجريحة مكلوماً محملاً بأوجاعها وترانيمها الملأى بكبرياء الكبار، بهمّة أحبابها، بدموع المحبين التوّاقين للقياها، محاصراً بالدماء الزكية التي ما تلبث وأن تسقي تربها بين حين وآخر محصناً بتضحيات المرابطين، فلعلها تموت المواجع وتنحني ويصغُر كل عظيم أمام شهقة الألم المترامي بين أضلعها وأهداب عيونها ، بين حجارتها الصمّاء وأزقة الوجع في دياجير الظلمة والوحدة والضياع.
على مقربةٍ من بوابة السماء كانت الروح تحلّق يوماً مع الجسد هناك في فضاءاتها تبوح لقبتها الذهبية المنتصبة شموخاً عن لوعة الفراق وأنشودة العشق للقلب المتيّم باحتضان ترابها والتدثّر بساحاتها الممتدة إلى أبعد من حدود السور ، إلى أكنافها وحوارييها وكل بقعة تغلغلت بيارق النور الوضّاء في نواصيها.
بخطى متثاقلةٍ كئيبةٍ منكسرة الخاطر ووسط زحام المغادرين مضيت أجدّ السير عبر بابها الفسيح مُكرهاً مُضطراً لأن أرسم لوحة الوداع بعد أيام في أحضان المسجد الحزين ، تتلقّفني الأرض متمسكة ويهوي قلبي نحوها مقبّلاً كل ذرة تراب فيها ، أمعنت السير بين القبور الممتدة بجوار الباب قريباً من باب " الأسود " وإنني عند كل قبر مررت به حدثتني نفسي بحال الموتى مَن يجاورون التراب المقدس ويتدثرون في دفئه وأي حال يُحسدون عليه وهم في رباطهم الدائم على عتبات المسجد ، إذ يا ليتني معهم أو كالذي يضمّهم تراباً يخطو عليه المرابطون والمدافعون والمنافحون ، فلا مكان لنا فيه إلا بشق الأنفس ولا سبيل للوصول إلا عبر المستحيل المتبدد مع خطوات الإقدام التي لا تأتي كل عام إلا مرة أو مرتين !! نحن المحاصرون مرات ومرات بحدود وقيود ..
لم يكن مشهد الوداع المكتظ بزفرات الحنين والدموع التي هامت فوق أسوار المسجد أقل مرارةً وحرارةً من مشهد الوصول والولوج إلى بوابات المدينة العتيقة بأسوارها الشاهقة الشامخة ثم إلى عتبات المسجد إذ تستقبلك إطلالة بهية لعروس ازّينت وتهلل وجهها ، أشاح القمر بوجهه وتوارى أمام حلّتها ، إذ تنزاح الحروف إجلالاً لعظمة المشهد فتعجز فوق جمالها وكبرياء العربية فيها بأن تصف تلك المشاعر وقد رأى الحبيب بريق الدمع في عين الحبيبة منسدلاً ، وقد رأى الجدران تبكي شوقاً للقادمين الزائرين بعد الغياب ، تزلزلت الأرض وارتعدت فرائصي وهمّ الدمع يردّ تحية الحزن والفرح يعرف طريقه كما كل مرة ، آليت ساعتها لو أمسك الوافدين واحداً واحداً ، وأمسك الهائمين يمتّعون أبصارهم بجلال الموقف والمكان والزمان فرداً فرداً لأخبرهم عن هيامي وعن فرحتي ، كانت أكبر من أن يحتملها القلب المنكسر المتطاير فرحاً على السواء.
كاد الصوت ينفلت مني صارخاً فرحاً فاستدركت نفسي وأبقيته يزمجر في داخلي على مضض ، يلتقي الفرح مع الألم في ذات المسار ولقبلة واحدة كانت صلاة الجراح بلسماً طاب بالآذان وصيحات الله أكبر تُسدل ستار حكاية العجز والضياع الطويلة لتُسمع القادمين والمغادرين والهائمين بأن يشهدوا ركعتين بين جنبات مسجدها أو يدان مرفوعتان إلى السماء ينتحب القلب معها بصوت مكلوم حزين يُغنيك عن كثير من متاع الدنيا وعرضها الزائل ...
أنا يا قدس لستُ أخفيكِ عشقاً ترتّله أنّات قلبي بآي الإسراء والنصر فقد بحّ صوتي بحشرجةٍ يهيم لها فؤادي حين يراكِ من عيني عاشق متيّم ،، ولا يبرح يغادرني رجع صوتك يوم ناديتني فأمعنتُ أسترق السمع إلى ضجيج جرحك من بعيد ، أنا يا قدس أعزف على أوتار جرحي تراتيل الصلاة أبوء لها بوجدي وعشقي ، أهرب من خوفي إلى طمأنينة الرضى في حنايا تربك الميمون .. لكم تمنيّت أن أكون عظاماً راقداتِ في صخور القدس يتدثّرن بتربها يصفحن عن نفسي تقصيرها وضعفها وجزعها ...
على حائط " القبليّ " أسندت ظهري فجر الجمعة "الرمضانية " أحتفظ بموضع قدم باكراً بعد ليلة كانت مضيئة بشمس القبة الذهبية ونهار يرفض مغادرة كل ذلك الجمال ، وبعد سفر شاق منعت الفرحة وبهجة الوصول العيون النوم ، وتحت ظلال السور المنعشة ، قريباً من حائطٍ جانَبَه البراق يوماً وحلّ ضيفاً قربه الحبيب – عليه السلام - أمعنت النظر في تلك الحجارة أبحث عن عمرها ، فأجهله لأني لا أحصيه عدّاً فيأبى إلا وأن يحتفظ بجميل العظماء ترى آثارهم حاضرة باقية ، وأبحث عن مواضع اليد التي أثبتتها ههنا لأقبّلها ، هي ذي الحجارة أقدم من كل المارقين العابثين بتاريخها وهي كجذورها الممتدة للأبد ... ترفض كل دخيل ..
وعند بزوغ الفجر إذ يتبين الخيط الأبيض مروراً من فوق صخرتها الصفراء المفعمة بالحياة تحوم عيناك كما الطيور التي لا تعبأ تناور في المكان تنتقل من سورٍ لآخر ومن قبة لأخرى تحاول ألا تذهب تلك اللحظات هباءً ، تحاول مِلأ الذاكرة بصور الجمال والكمال ، بملامح الأرض وآثار مَن مرّوا وصلّوا ومَن جاؤوا يلقون عليها تحية السلام ، يصطفون فوق كل شبر فيها وفوق كل ذرة تراب يؤدون تحية الرحمات والصلوات الطيبات .. ينثرون في مرابعها غراس الحب والبقاء ..
على أبوابها ستجد نفسك مرغماً على البكاء والنحيب ، لا يحلو لك النوم ولا يعرف إليك طريقاً وأنت لا تدري أتحيا في معمعة حلمٍ عظيم جميلٍ كهذا مرةً أخرى ، وأي حلمٍ أنت تحاكي فيه الماضي والمستقبل .. تحت أشجارها جلسنا وارتوينا نستقي ظلال الحب نروي للعصافير التي حلّقت فوقنا رواية العشق الأبدي .. رواية الباحثين عن فردوسهم وأفراح الروح في جنبات مسجدهم الحزين ..
وحانت لحظة الفراق ، وما في جعبتي إلا أن أخطو هرباً إلى الأمام ، سأدير ظهري نحو بابك ، أما عيناي فستظل ترقبك حتى يتوارى عن ناظري ذلك الحلم ، كيف لتلك اللحظات أن تظل خالدة وكيف لها أن لا تكون أسرع مما كانت عليه وكيف للفؤاد أن يحتفظ بها في سويدائه ، وصوت المسجد المحزون يحرّق القلب لوعةً ، يُبكيك نداءه " لا ترتحل " وتودّ لو أن الزمان عند تلك العَبَرات قد توقف ... لكنما حبيبتي سيظل أملي بالعودة إلى تربك حاضراً ، أنشُدُه مع إشراقة كل شمس تسترق فوق قبابك اللامعة شعاع نور وأمل ، لن أملّ في رسم حدودك على ضفاف القلب المعنّى خارطة وطن ، سأحفظها طولاً وعرضاً ، سأخبّئ خلف كل شجرة من أشجارك السامقة حلماً أتركه ليكبر مع الأيام .... أما والله فقد تركتك مكرها ووحده يعلم بما فعل الفؤاد وما حلّ به غداة غبتِ عن ناظريه ... غير أن القلب يخفق لكِ حباً : فلأنصرنّك ما حَييتُ وإن أمُتْ ، فَلَتنصُرَنّك أعظُمي في القبر.