تعوَّد الناسُ أن يرسلوا أشواقهم للمسجد الأقصى مُحمَّلةً بالحبِّ والانتماء والتوقِ للقياه والسجود فيه، وككلُّ محبٍّ لا يستطيع الوصول، فيبعثُ فيه الحياةَ ولو بعضُ حروفٍ تبوح بالشوقِ للقاء قريبٍ: "الأقصى يشتاق لك"، وتعوَّد آخرون وصلَه بالصلاة فيه والرباط على أبوابه وفي ساحاته، يرتلون فيه صلوات الحب والانتماء، ويحرسونه بالاعتكاف والدعاء، ويُحيون مساطبَه كمنابر علمٍ وخطابة، وأمَّا أبناء العمومة من دار جبارين، فكان لهم حديثٌ آخرُ مع القدس والأقصى، أرادوه بوابة السماء، أرادوه وسيلةً يتقربون بها إلى الله، فقدَّموا القرابين وكبَّروا، ثم سالتْ دماؤهم الطاهرة في ساحاته لتكتب بمداد الدم قبل مداد القلم، أنَّ الذي يسرجُ بالدم لن ينطفئ! نعم؛ لن ينطفئ!
عمليةٌ نوعية في قلبِ المسجد الأقصى زعزعت الكيان الصهيوني ليبحثَ مُتخبطًا عن كلِّ أصناف إذاقة الويلات والعقاب الجماعي للشعب الفلسطيني عموما ولأهل القدس بشكل خاص، في محاولة لخلق رأي عامٍ مُشوَّه يرفضُ هذا العمل ويحمِّل أي عمل مماثل المسؤولية عن خطورة تطور الأوضاع، فكان ردَّه الأول بإغلاق المسجد الأقصى أمام المُصلين، وإخراج أهله منه عنوةً ببطش الجبروت والسلاح، وتحت طائلة الحبس والتهديد، ضاربًا التصريحات الرسمية المعارضة لقرار الإغلاق عرضَ الحائط، رافضًا لكلِّ وصاية على المسجد الأقصى إلا وصايةَ الاحتلال وحده، إغلاقٌ لأوِّل مرة منذ عام 1969، ليمرَّ هذا الإغلاق دون ردَّة فعلٍ ترقى لخطورة ما أقدم عليه الاحتلال، وسطَ صمتٍ مُطبِق إلا من نداءات وصلوات من وَصلُوا وصَلَّوا على مقربة منه رافضين ذلك القرار، مُصرِّين على الصلاة فيه رغم خطورة الوضع ووحشية الاحتلال بعد العملية.
استمرَّ الاحتلال بخطواته التصعيدية بإلغاء دور الأوقاف بالمسجد وبمصادرة مفاتيح البوابات، وتعدَّى ذلك ليوكل مهمة التنظيف بعد الدمار الذي ألحقه به، لعمال تابعين لبلدية القدس التي تخضع لسيطرة الاحتلال ومنهم متطرفون صهاينة، ليُعلن الاحتلال بذلك أن السيطرة على المسجد إسرائيلية صهيونية بالكامل، مُستغلا ركود الشارعين العربي والإسلامي وتصريحات البعض على استحياء دون موقف جازم واضح، ليعود للذاكرة مشهدٌ مؤلم يوم ارتكب الصهاينة جريمة حرق المسجد الأقصى في 21 آب 1969 لتُعبِّر رئيسة وزراء كيان العدو آنذاك جولدا مائير عمّا يجري اليوم قائلةً: "لم أنم ليلتها وأنا أتخيل كيف أن العرب سيدخلون إسرائيل أفواجًا أفواجًا من كل حدب وصوب، لكني عندما طلع الصباح ولم يحدث شيء أدركت أن بمقدورنا أن نفعل ما نشاء فهذه أمة نائمة" اختلفت الأسماء ولكنِّ الفعل واحد والعنوان لمْ يتبدّل: غطرسةٌ واستبداد.
لم يحتج الاحتلال يومًا أيَّ ذريعة للقيام بكل ما يفرضُ الأجندة الصهيونية على أولى القبلتين، فقد قسَّم من قبلُ زمانيًا ومكانيًا واستباح ساحات المسجد ومبانيه، وأباح اقتحامه للمجموعات اليهودية المتطرفة، ولكنَّه الآن علا واستعلى ووصلتْ غطرسته لأبعد الحدود، فقام بنصب بوابات إلكترونية أمام المُصلين، هدفُها الإذلال والإمعان في الظلم والتخريب، وفرضُ سياسة الأمر الواقع وتمرير ما يحدث وكأنَّه مشهدٌ اعتيادي سيألفه أهل القدس وزائرو المسجد من كل مكان، ليُعلن بعد ذلك فتح المسجد الأقصى أمام المُصلين في مراوغة مكشوفة مفضوحة لم تمرَّ دون أن يتنبَّه لها أهلُ القدسُ ويتصدوا لها بالرفض المُطلق بإقامة الصلاة أمام تلك البوابات ورفض المرور منها حتى تزول.
توحدَّتْ كلمةُ أهل القدس شيبًا وشبَّانًا، رجالًا ونساءً، بل وحتى أطفالًا، لنْ نمرَّ من بواباتكم، لن تفتشونا، فهذا مسجدنا ولن نرضى أي بوابات غير بواباته، وإلا فبوابة السماء لنا أقرب، وسنجعلُ من بواباتكم الإلكترونية هذه تجمعاتٍ لنصيح فيها بأعلى أصواتنا أنْ لنْ تركع أمةٌ قائدها محمد! فنحنُ متن النصِّ وأنتم لستم إلا حاشية عليه، نقولها بصوتٍ واحد، لأننا المدافعون عنه ولا ننتظرُ من أحدٍ أن يأذن لنا بذلك، وكُلَّما أرجعتمونا للخلف خطوة فسنتقدم للأمام خطوتين، لا نخشى جيشكم المدجج بالسلاح، ولا فُوهات بنادقكم، هذا إرث أجدادنا وآبائنا، إرثُ الأنبياء، إرثُ من بذلوا الدماء في سبيله، سنحطِّم بواباتكم كما حطَّمنا أغلال اليأس والجهل والخوف، وسنعلي كلمة التوحيد فيه أعِزةً ولا نعطيكم فيه الدنيِّة، ونحن هنا باقون كما هو، ولتعْلَموا: إنَّما الأقصى عقيدة، وعلى حطام بواباتكم عابرون، وإلا فبوابة السماء لنا أقرب!