ليس من الواضح إن كانت أجهزة الاحتلال الاستخباراتية، بذات غباء الإعلام الإسرائيلي، أم أنها تقبل، طوعًا، العمل في إطار مهمات التوجيه السياسي (الهسبراة) في الداخل المحتل. لإقناع الإسرائيليين أن كل شيء في هذه البلد يسير على ما يرام.
بالطبع سيكون من باب الإرادويّة الصرفة وصف الاستخبارات الإسرائيلية بالغباء، من دون تمحيص، فنجاح هذه الأجهزة في العديد من العمليات الأمنية المعقدة والمثيرة للإعجاب (على شاكلة حملات اعتقال شرسة وعشوائية للمئات في كل شهر، وإخضاع هؤلاء للتحقيق بهدف بناء "قاعدة معلومات" يمكنها أن تشير إلى مواطن محتملة لانطلاق الهجمات في المنطقة الواقعة غرب الجدار الفاصل، أو مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي مثلا)، يثير الدهشة. مخابرات "إسرائيل" أقوى بكثير من مخابرات الدول (والبلديات) المجاورة (رغم أن مخابرات بلدية رام الله مثلا، قد نجحت في "إحباط" 200 عملية خلال العام الأول من الانتفاضة، مقابل نجاح "الشاباك" في العام ذاته بـ "إحباط" 129 عملية وذلك رغم أن ميزانية جهازي "الموساد والشاباك" معا قد بلغت في 2017 ما مجموعه 7.839 مليار شيكل[حسبما ورد في تقرير حاييم ليفنسون في صحيفة ’هآرتس‘ بتاريخ 5 أيار الماضي] .ففيم يصرف ضباط الشاباك وقتهم وهذا المبلغ؟ في تكرار الأسئلة!
خذوا عندكم مثلًا، ما كتبه كلّ من يعقوب بيري، الرئيس الأسبق لجهاز الشين بيت، و ليئور أكرمان، وهو بريغادير جنرال سابق في الجهاز ذاته، خرج من صفوف الجهاز وبات يسوّق خدماته باعتباره "خبيرا مستقلّا، ومحاضرا في شؤون مكافحة الإرهاب" ويقوم بإلقاء محاضرات في الفنادق، ضمن البرامج الترفيهية لدور المسنّين، ونقابات عمال فتح علب السردين، وجمعيات الحفاظ على قناديل البحر من خطر الانقراض. يمكن تلخيص ما كتبه هذين الشخصين في الصحف الإسرائيلية الصادرة اليوم، تعليقا على عملية الجبارين، وما كتبه آخرون من الجهاز ذاته في أعقاب تنفيذ عمليات شبيهة في التالي: 1. هل تأثر المنفذون من مواقع الإنترنت الخاصة بتنظيم الدولة الإسلامية؟ 2. هل لدى هؤلاء ارتباطات أخرى بمعاونين قاموا بمساعدتهم في الوصول إلى أهدافهم؟ 3. كيف يمكن لـ"إسرائيليين" من أم الفحم، أن يخونوا دولتهم ومجتمعهم الحبيب وينضموا إلى صفوف الأعداء؟ 4. سهولة الحصول على الكارلو وكيف يمكن تجفيف منابع الكارلو.لا! لا يفهم ضباط الجهاز الأذكى في الشرق الأوسط (مقارنة بذكاء جهاز الأمن الوقائي والضابطة الجمركية الفلسطينية، وضبّاط الأمن المركزي المتثائبين في مراكزهم في مصر، ولابسي دشاديش المطاوعة في السعودية) أن سكان أم الفحم، مثلا، فلسطينيون كسكان مخيم جنين أو بلدة حورة في النقب. لا يعتقد ضباط الشاباك أن الدافع إلى تنفيذ العمليات.
ببساطة، هو وجود الاحتلال، أو أن الصراع على هذه الأرض صراع وجودي. لا يدرك الشاباك أن مجرد وجود الكيان الصهيوني على هذه الأرض هو اعتداء على أصحابها، وهو يرتبط، حتما، بالحفاظ على الوجود الدخيل باستخدام العنف، وما يستتبعه الأمر من عنف ثوري مضاد. بل إن المتسبب في المشاكل كلّها شخص إسمه أبو عاتكة النجدي، أو أبو ساندرا الأميركاوي لديه حساب على فيسبوك. ولا يظن ضباط الشاباك أن المشكلة متعلقة بوجود الاحتلال، بل في توفر سلاح الكارلو على البسطات في الضفة الغربية، والأزمات العاطفية التي يمر بها المنفذين (لماذا، بحق الله، لا يتم اعتقال هاني شاكر مثلا؟)
الأسئلة كلّها، كما يعلم أي فلسطيني اجتاز امتحانات التوجيهي (أو لم يجتزها، ولم ينتسب إلى الأجهزة الأمنية لسلطة عباس) لا علاقة لها بما يحدث على الأرض: فالدافع إلى تنفيذ العمليات ليس بالضبط داعش (والفوّهات التي صوّبت إلى رؤوس عسكر الاحتلال من مسافة صفر على باب الأسباط يوم الجمعة الماضي، سبقتها فوهات أخرى في مواضع أُخر، قبل انتشار الكارلو وبعده، قبل انطلاق داعش وبعدها).
كما أن الكارلو هو مجرد ديكور مرافق لما يحدث على الأرض فعلا: تكفي أحيانا سيارة ميتسوبيشي لانسر، مجهّزة بشجرة زهرية تصدر رائحة اللبان معلّقة على مرآتها الأمامية وبزمّيرة، لتنفيذ عملية. (هل تذكرون البطّيخة التي تم إلقاؤها من الطابق الثالث في الخليل، بداية الانتفاضة الحالية، على رأس جندي إسرائيلي؟) حين تتوافر النية، وتتوافر الظروف، ويتوافر جندي يمكن استهدافه ببطيخة أو بميتسوبيشي لانسر فيها شجرة زهرية، فإن أسئلة الشاباك كلّها تصبح بلا علاقة. وما يتبقّى فعلا أمام الشاباك هو اعتقال المئات، مواصلة بناء "قاعدة المعلومات"، محاولة تجنيد العملاء، مراقبة لايكات الفيسبوك وصور انستغرام. بيد أن هذا كلّه، إذا ما تلخّص في إعادة تدوير الأسئلة ذاتها، المرة بعد المرّة. يصبح بلا فائدة.