في ليلة من ليالي سجني الطويلة وما أكثر هذه الليالي من سنين بعدي عن زوجتي وأهلي وأصدقائي.
هذه الغيبة الطويلة التي أشعر فيها أني أقدم من التاريخ، وما قبل الأزل، ومن زمن بعيد أبعد من الخليقة، من بين ظلام دامس السواد أتوسط جدران، أربعة جدران وسقفاً وأرض أجول وأصول مع نفسي، فذهبت بهذه الليلة إلى بعيد ولا أدري أهي مخيلتي أو ذهبت بحنيني وشوقي وقلبت صفحات حبي، وعدت بذاكرتي أم كنت أرسم لوحات في مستقبلي، الذي لا أدري متى يبدأ أهو بعد أيام أو أسابيع أو شهور أو سنين أم بعد عقود، ولكن كل ما أعرفه أن غداً لن يأتي فكيف يأتي الشهر القادم أو ما هو أطول منه زمنياً.
ففي وسط هذا الركام الذي تجمع وتكدس، ومن بين ألم وأمل يتجمع منذ زمن بعيد أبعد من عمر طفل أو طفلة لم يتجاوز عمرهما الخمسة عشرة ربيعاً وخريفاً وشتاءً وصيفاً وخمسة عشرة رمضاناً وثلاثون عيداً، فهذه السنين والمواسم والأعياد التي تجمعت في عمر ذلك الطفل أو الطفلة تجمعت في سنين ومواسم وأعياد ضحكتي وغربتي وعزلتي تلك، أو حتى إذا صعدت الروح الى خالقها في ذلك اليوم وأنه ترك الدنيا الزائفة أو الزائلة، ذاهباً تحت حياة جديدة أزلية لا أحد يعرف أهي شقية أم سعيدة فهذا علمه عند من أسكن الروح الجسد.
نعم هذه الحياة يولد إنسان من أصل تراب لينمو ويكبر فهو لا يعلم عن هذه الدنيا شيء أهي هناء أم عناء وآخرون يوارون في بطن الأرض يتحلل ويعود إلى أصله التراب.
وها أنا منذ خمسة عشر عاماً، لم أمت ولم أولد ولم أتحلل بين الجدران فالعمر ينفذ والشيب يتغلل والأصل مستمر وطعم الحياة يفقد لذته ومعناه في وسط هذا التناقض وما بين موت وحياة، وما بين حرية وأسر، وبين تفاؤل وأمل، وبين نهاية عمر وبداية آخر.
ذهبت بشوقي وحنيني إلى بعد مغاير فيه تناقض، يرى بالعين ولكن أنا رأيته بالقلب والعقل المتمسك بالذاكرة، فجلست مع ذاكرتي ومخيلتي باحثاً من مكان مرتفع لأرى من خلاله تناقضات أكثر فلم أجد أفضل وأكثر إطلالة وأوسع أفقاً سوى قمة جبل شامخ إسمه تل العاصور موقعه شرق وطني الصغير سلواد ويتوسط وطني الكبير فلسطين.
أجلست نفسي على أحد صخوره الراسية تحت شجرة بلوط معمرة، ولكن ليست بالكبيرة وأخذت بالنظر إلى الغرب باتجاه ناظري ومشرقي، لأجد أول التناقض، فإن الإنسان عندما يبدأ يومه ينظر إلى شروق الشمس ويكون الغروب خلفه مجازياً وعند انتهاء يومه ينظر إلى الغروب والشروق خلفه مجازياً أيضاً هذا عند الانسان العادي، ولكن في جلستي هذه ربما إنها ليست عادية وبمكان غير عادي وبزمن غير عادي وبظروف غير عادية، فإن النظرة ستكون غير عادية والمشهد غير عادي.
فأنا عندما أجلس على تلك الصخرة في ظل شجرة البلوط، وأريد النظر إلى وطني الصغير سلواد في ساعات الصباح الباكر يكون الشروق خلفي ومكان الغروب أمامي، فعجباً كيف أبحث عن أمل وأنا أنظر إلى منطقة الغروب وكيف أجد الأمل وظهري إلى الشروق ! وعجباً آخر فإذا نظرت إلى منطقة الشروق أجد أمامي أعدائي وجنود إبليس أعداء وطني وشعبي وأمتي وديني بل أعداء البشرية جمعاء وأعصى من عصى الله أشر خلق الله!
أرى قبب خضراء تعلو منصة حديدية كبيرة كي تتمكن من حمل تلك القبب وفوقها أكوام من الأسلاك الشائكة المنسقة، بطريقة خاصة لحمايتها من دخول العابثين، وهذا تناقض آخر نحن أصحاب الحق العابثين وهم المحتلون المستعمرون، هم الذين يحتاجون حماية فمغتصب الحق لم يعد عادلاً والباحث عن الحق عادل .
فأعود وأقول حتى الشروق والأمل، فالبداية الجديدة لليوم الجديد لابد بأن يخرج من خلف قبب المستعمرين ومن خلف أسلاكهم الشائكة، لتقول لي الشمس خلال خيوط شعاعها أنظر إلى الغروب لأعيش على أمل شروق جديد ربما يأتي بزمن بعيد أو زمن قريب وأنصاع إلى شعاع الأمل القادم من الشمس المطلة من خلفي.
من الجائز والمحتمل أننا لسنا جاهزين لإستقبال يوم جديد وشمس جديدة، ولم نبذل الثمن المطلوب الذي من خلاله نستحق الحياة على هذه الأرض المقدسة، وكما قال درويش"على هذه الأرض ما يستحق الحياة" علماً بأن الشمس قبل أن تشرق على وطني الصغير سلواد، تكون قد زاحت خيوطها على وطني الكبير فلسطين وعلى دول عربية وإسلامية كثيرة، فمعظمها لا تعرف قيمة الشروق دون أسلاك شائكة أو قرون شيطانية مليئة بالكراهية والحقد والغطرسة .
أعود بناظري إلى الغرب، أتفقد وطني الصغير سلواد بنظرة شوق واستغراب، فأجد تناقضات كثيرة بهذا الوطن الرائع الذي هو جزء من الوطن الأم وجزء من أجزاء الأوطان المحيطة. فأنا لم أبعد ناظري على هذا الوطن الصغير أصلاً ولكن هذه النظرة العائدة لي دائماً فيها شوق وحنين ولهفة إلى أن أعود إليه ساجداً شاكراً لله على ترابه ولأسقي بدمعة عودتي زهرة نبتت على قبر والدي وقبور الشهداء الأبرار.
أنظر إلى سلواد من شرقها، بالنسبة إلى موقعها وهي إلى الغرب بالنسبة إلى مجلسي، فأرسم لوحة فنية ممزوجة بالحقيقة والخيال ما يتجاوز زمن عشته وزمن غامض، فخانتني الذكريات والنسيان والتوقعات والتحليلات بناءً على صور رأيتها أو روايات سمعتها ممن عاشوا حالة التطورات سواء المعمارية أر الفكرية، فأجد تناقضات كثيرة أكثر من سنين غربتي، وأكبر من مساحة وطني الذي حرمت منه منذ زمن واضح.
فهنا التناقض فيه جمال آخاذ وخلاب، بداية أرى حجارة قديمة وحديثة مجتمعة ليتكون بها بيوت قديمة وقصور حديثة ومحلات تجارية ومؤسسات إجتماعية. بين البناء القديم وبشكله القديم حتى أنه تفرح منه رائحة التراب أو الزعتر والطيون، منها مُعمر ومنها المهجور وآخر يتم محاولة إنعاشه من التلف أو الإندثار بفعل عوامل الطبيعة.
ومنها الجديد بحجارته حتى ألوانه ونوافذه ليكون هناك خليط في لوحة للناظر من بعيد وسط هذا الزحام المعماري، ليرى التناقض الجميل الناتج عن حالة من العناق والتناسق البنائي، أما الحديث يعلو القديم والقديم بجواره الحديث في تمازج بصورة من الجمال الآخاذ، فلولا القديم لما تطور الحديث، ولولا الحديث لما ظهرت قيمة القديم وجمال الإندماج بينهما، وحالة العشق الأزلي ما بين الماضي والحاضر، فهذا سر من أسرار الحياة وتطورها، وهنا لا أريد الإنتقال إلى تناقضات آخرى فيها الجميل وغير ذلك.
ولكن أنهي بهذا التناسق، فأنا رغم طول بعدي عن وطني الصغير سلواد، فإني أراه أجمل من الجمال، وأرقى من الرقي، وأشتاق إليه مثل شوقي إلى حريتي وتحرري .
وأخيراً، فإني لا أدري هل شجرة البلوط التي أجلس تحتها وأستظل بظلها في ذاكرتي وحنيني مازلت قائمة مكانها أم أن عوامل الطبيعة دثرتها؟ .. وإذا ما زالت موجودة هل سأتمكن من الجلوس على تلك الصخرة تحت هذه الشجرة؟ و
هنا أسال نفسي سؤالاً ليس لدي إجابة عليه.. هل أنتظر شمس حريتي أم غروب شمس غربتي، أم أنتظر شروق شمس عودتي أم غروب شمس عزلتي؟
ملاحظة: الرسالة بعثها الأسير هارون عياد من بلدة سلواد من زنزانته في سجن عسقلان إلى شبكة قدس الإخبارية، في ذكرى اعتقاله الخامسة عشر، إذ يقضي حكمًا بالسجن مؤبدين و20 عامًا.