في مثل هذه الأيام يفترض أن تشارف صناعة كعك العيد الفلسطيني والسوري على نهايتها، لكن القطع المتكرر للتيار الكهربائي يؤخر العملية ويرفع ضغط الدم لدى معظم الأمهات..
مهماتي المنزلية تذوق العجين وتجهيز الفرن وثقب قطع الكعك بالشوكة، وسوى ذلك لا يمكنني تقديم أي خدمة سوى شمّ الرائحة الطيبة للمنتجات المنزلية.
أما موعد "التعزيل" فهو وقت هروبي من مواجهة الماء والصابون، ذلك أنّ أمي وشقيقاتي يعشقن تنظيف البيت حدّ الترف؛ والترف عندي أن يصير لمعان الجدران مزعجا لناظريّ اللذين يفضلان الاعتدال في نظافة الأشياء ونقاء السرائر.
ما زلت داخل البيت في وصفي ولم أخرج من صالة الجلوس أو أقف على مدخل المبنى لرؤية جمال الطبيعة.. نعم الطبيعة التي في عيون نساء نصفهن ياسمين شامي والنصف الآخر ليمون يافا والتي ستجبرني على التجوال المستمر.
يُعرف مخيم اليرموك للناظرين المنتمين إليه من لون الإسفلت والشبر الأول لأي جدار مقام، ولا حاجة لأكثر من ذلك للمعرفة حتى لا يصير بطراً، ولعل الترف الذي أزعجني بنظافة جدران بيتنا المبالغ فيها والبطر بشرح العناوين أبتغيهما عشقا مبالغا به لسيدات المخيم والزائرات.
لن أستطعم نكهة للإفطارات الرمضانية الأخيرة، إن لم أضطر للمشي نحو أكبر شجرة كينا في المخيم، تلك الصامدة في شارع اليرموك الرئيسي؛ لأقف تحتها قبيل الغروب وأصغي لآخر الكلام الذي تقوله عصافيرها، وقد أتساءل لماذا يزقزقون كثيرا حين أصل أو قبل بقليل، لكن لم أتنبأ يوما أنهم شعروا باقتراب موجة الجوع قادمة من الصومال إلى المخيم!.
وسأشغل نفسي بشراء المعروك والشعيبيات في عصر السرعة، حين تسابق المركبات قرص الشمس نحو الأفق قبيل الشفق بلحظات، وقبل أن يعمّ هدوء ما قبل العاصفة طيلة نصف ساعة كاملة من الغروب.
روحانية تلك الأيام عمار في بيتي جديّي؛ تؤسسه جدتاي ساعات قبيل العزومة بتفتيل كثير من مفتول المغربية لنلتهمه خلال بضع دقائق فقط.. كم هـنّ مضحيـات بوقتهن لإسعاد العشيرة بالمضغ وبعض الأحاديث!.
في مثل هذا الوقت بالذات تتحضر عروس ساحة العيد لملاقاة روادها العابث رجالهم بأوراق الشدة في مقهى أبو حشيش المجاور.
أما روح دمشق أو فلسطين الصغرى فهي معبأة في زجاجة "فهرنهايت" لعطّـار من درعا في شارع لوبية، مزج فيها أحاديث الجدّات ووشومهنّ وأسماء الكنى.. ذاك هو كياني المختلط بهويتين متصالحتين كما الزيت و"السبيرتو".
صحيح أن إبرة العطّار تضخ الزيت رغما عن الزجاجة، لـكن بمقدار نحدده تأبى الأخيرة احتضان ما يتمرد منه على حدودها، ويهذب شيء من السبيرتو كبرياء الزيت فيها، كما هويتي الأولى التي لا تسمح لهويتي الأخرى أن تنسلخ عنها أو تتطاول البتّة مهما امتد زمـن الصراع خارج عنق الزجاجة.
ذاكرة الرائحة الزكيّـة جعلتني أشتاق إلى عجقة لا ترحم، تبدأ بزمور سيارة حاولت المرور ومنعها أصحاب البسطات الذين سأصير واحدا منهم بعد إنهاء وجبتي. واشتقت معها إلى عيونهم التي تتحرش في تفاصيل فتاة جميلة تلفت الأنظار.
السوق ﻻ يزال مكتظا بالذكريات لصراخ الباعة الجوالين غير آبهة جنباته لما جرى. سمعتهم في داخلي التي يسكنونها يطالبون برفع الأجور والكرامات وبالوحدة الوطنية بين جميع طوائف المخيم وأعراقه، وشعرت أن السوق بعجقته وأبنائه امتداد لكلام جدي عن سوق حيفا وتنوع فلسطين، ووجه شعبي للشام بانسجام لا بتناقضات أو قمع.
صرت صاحب بسطة وكانت الرشوة ضرورية لمواصلة العمل الموسمي، فالفقراء مضطرون لدفع خوّة إلى عناصر الأمن الداخلي (المحافظة) ليغضوا طرفهم عن البسطات التي تعرقل الطريق.. إنـهما الفوضى والفساد تنسيكهما، في نهار اليوم التالي، رائحتا العرقسوس والتمر الهندي؛ وكشة الحمام البهيّـة التي جلبها صفير جارنا الحميماتي على سطح بيته المجاور.
ومن شرفتَي بيتنا المطلتين على السوق رأيت كثيرا من التناقضات؛ أشتاق لو أكرر مشاهدتها أو أن تكون قد جمعت في شريط واحد يهديه لي صحفي أو سائح أو عابر سبيل أو ضابط مخابرات!.
قد تكفّر صلوات التراويح التي أديتها في مسجد عبد القادر الحسيني عن ذنوب تفرجي من شرفة البيت رغم قلة عدد المرات، وذلك تخليدا لأرواح شهداء مجزرة الميغ في المسجد وتقديسا لجدرانه المتداعية بفعل القصف.
أما صفرة رمضان؛ فتشرذمت وتجعدت أطباقها وتوجست أمعاء أصحابها، لكن رائحة الفلافل ﻻ تزال تجذبني إلى سوكة الشارع ملقية بي على قارعة طريق أخرى في زمن آخر وبلاد غير البلاد.. هي عالقة في ذهني ومعتشش زيتها في دماغي مع زيت الفهرنهايت، وأظنني لن أفارقها كما فارقني الشهر الفضيل وزجاجة التعبئة.
الحنين قاتل إلى الحد الذي يصير فيه كفرا.. فكم أرغب بالاجتماع مع أصدقاء الفوتبول ولعب مباراة مستعجلة معهم، وإن لم تتوفر فلا بأس بافتتاح دوري لكرة القدم على الكمبيوتر للعبة "فيفا" في غرفة سهرنا داخل بيت صديقي كنان.
وأصدقاء الجامعة ينتظرونني في بابا توما بعد الإفطار؛ فوجوهنا أجمل داخل أسوار البلدة القديمة، حتى أنها أكثر نضرة وابتهاجا في لقاء يتضارب بموعده مع الاجتماع التنظيمي لأصدقاء وطنيتي اليرموكية.
أريد بشكل مستعجل ثلة من دراويش المخيم في سهرة واحدة تحيي وطنيتي المتوجسة، فهم الأكثر وطنية وصدقا، وأرجوهم أن يأتوا بمن فيهم الشهداء لإنقاذي من الصراع مع الذات.
لا يحق لي نسيان الدراويش الطيبين أبو باسل الخطيب وأبو حديد (ناظم) ومروان مشعل وحسين النازح (الآذن) وعلي المغربي بكل بساطتهم وجمالية ليالي رمضان والعيد بكلماتهم العفوية، فهم البركة بعينها في السهرات التي اقتلعت من يومياتـنـا وأخذوا معها إلى القبور والمنافي.
المسحراتي بمن معه من صبية الحيِّ وطبلة متخلّفة وعصاً خشبية في يديه لا يستطيعون سوى الافتراء علينا بأنا كنا نائمين وأيقظونا، لكنهم صادقون بإزعاج الساهرين عبر زيادة فرط النشاط لديهم؛ فالأرواح في المخيم تتشكل من الأرض وتخرج فورا للحياة والحركة ولا وقت لديها للنوم.
إنه ضجيج هادئ لما قبل العاصفة، حين كان بالإمكان شراء الثياب قبل تكبيرات العيد بربع ساعة.
لست من جماعة "كنـا عايشين" بل أكرههم فهم أساس الاستسلام والعجز، وأكره تسخير الماضي حاضرا للتحسر والندم بطبيعة الحال، لكني من جماعة المشتاقين إلى بيئتهم على أقل تقدير ومناصرا وسيما لحقوق الناس.
في الرمضان الأخير؛ كانت عيون النساء الزائرات لشوارع المخيم أجمل وأكثر اتساعا وتنوعا نظرا لتعدد مناطق نزوحهن، لكنها كانت خائفة من المجهول، فأصوات القذائف واضحة وقتلت إحداها ثلاثين شابا في شارع الجاعونة وبضع عشرات آخرين خلال أيام تتالى الجحيم فيها.
وبالرغم من ذلك، فالأشواق لا تزال تقودني إلى موقع سهرنا على سطح بيت صديقي منير في شارع فلسطين، الذي بات خطا متقدما لجبهة الاشتباك.. لقد جئت وحيدا إلى السطح في المنام، ليس كما كان عليه في أحد الأعراس الجميلة، بل خاويا على عروشه والزرع على سياجه متيبّـس.
والمغامرات تتوالى؛ فكم أشتاق إلى سهرة أخرى على سطح بيت ضياء الصديق الصدوق، تخللها أزيز رصاصات طائشة كادت تودي بحياة شاربي الشاي قبيل السحور، وتشبهها سهرة أركيلة مع والدي على سطح بيتنا في شارع لوبية حرمنا القناص إكمالها.
رمضان فارقني هنـاك مع آخر عـبوّة "فهرنهايت" بخخت منها.. قالا إنهما ذاهبان لتنظيف مقبرة الشهداء القديمة.. وعلمت أنّـهما شاركـا معنا بزراعة الأعلام الفلسطينية على شواهد القبور قبيل الفجر بقليل... عزفت بعدها فرق الكورال الكشفية وكبّر الجميع تكبيرات العيد، ثم بدأت عملية إهداء الآس الأخضر لمن هم تحت التراب... عدت إلى منزلي صباحا وتهجّرت منه بعدها ولم يعد رمضان أو العبوّة لي.
لم أتخيل يوما أن ذاك المكان هو الوحيد الكفيل بجعلي أتفكر في متعة التمدد على جبل الكرمل وأخذ قدر من نشوة التمعّـن بحجارة القدس القديمة، وعلى ما يبدو فإن تشابه التضاريس والجغرافيا يؤثر في القلوب وإفرازات العقول.
أشتهي أياما يرموكية في مثل هذه الأيام، في أرض بارك الله بها ومثلت مربط الفرس لنا بين حضارة الكنانة وأرض المسرى.
كانت المسألة فلسطين وحدها، أما اليوم فهي وطنان لا فضل لأحدهما على الآخر شأنهما في ذلك شأن الهوية المزدوجة، بل إن الحديث عن التحييد وما شابه ذلك بات يزعجني ويتسبب بفورة غضب في داخلي لما يتضمنه من تضليل وكذب وصعوبة تطبيق.
لن يصدقنا أحد أن "اللايف ستايل" لضجيج الأرواح هنـاك يعلو فوق كل أشكال الموت الداخلية، وعلى أي حال لسنا منتظرين تصديق الآخرين لنا، وحسبنا نشوة التذكر.
وحتى إن تحول المخيم لمدينة أشباح بعد آخر ليلة في رمضان، وصار مرتعا للرعب والموت على غير عادته، وخذله القريب قبل البعيد، فلن يشفى أهله سوى بجرعة أمـل.
بل إن النكسة كمصطلح مخفف والنكبة الكبرى التي تعد أصغر النكبات مقارنة بلاحقاتها، لن تلغيا دعوات الفرح، ولن يُسمح للحاسدين وأصحاب المشاريع الشريرة سرقة حاجتنا منـه.
صحيح غابت خمسة رمضانات ومخيمها عنـي لكني أسجلها حاضرة في دفتر مذكراتي، شطبت منها فقط الدور الانهزامي لفصائلنا؛ فولن أقارن بين حاجتها لتعبئة صفوفها التنظيمية والعسكرية من دمائنا في فترات الصعود لتسترخص تلك الدماء مع أول قذيفة هاون تتشظى في أجسادنا.
وسأركز على كبار السن الصامدين، فهم لا يأبهون لكميات الطعام رغم شظف العيش ولا يلوّث بلوّر شاشتهم الوحيدة دمار أو حصار، بل إن الأساطير الحديثة التي تراودنا نحن الصغار ونحاول عبور وعثاء الطريق إليها ونؤمن بما فيها، تعجز عن تعطيل نبض أشواقهم الصادقة إلى أرض ميعادهم، ذلك أنه من فقد حكمة الكبير فقد كل تدبير.
وأخيرا سأحافظ على السر المرفق في قلبي أن المخيم عشيق خائن لمن أحبوه، وسأقرنه بنقيضه المسلّم به أن المخيمات أصل الحكايات.. فإلى فلسطيننا الصغرى التي هناك سلام.. وسلام على الصامدين.