في العصر الحديث، تعرضت العديد من الأمم للاستعمار الغربي لفترات طويلة من الزمن، ولكن هذه الأمم، مع كثير من التضحيات والمقاومة، تمكنت إن عاجلا أو آجلا من دحر المستعمر وإعلان الاستقلال، لكن، من بين كل حالات الاستعمار، بقيت القضية الفلسطينية وحيدة تراوح مكانها بعد أكثر من عقد من الزمان؛ بل إن الخسائر تكبُر المكاسب يوما إثر آخر.
هذه المعطيات تدفعنا لطرح عدة تساؤلات منطقية ومباشرة: لماذا نجحت كل تلك الأمم في دحر مستعمريها في حين لم يتمكن الفلسطينيون من التحرر حتى الآن؟ بماذا يَفضُلهم هؤلاء؟ أم أن المشكلة أكبر منهم ولا ذنب لهم في تأخر التحرير!
يأتي هذا المقال محاولا الإجابة عن هذه التساؤلات بكل موضوعية ممكنة وبطريقة موجزة، في محاولة للفهم ولتسليط الضوء على مكامن الخلل بغية إصلاحها. وسيتم تقسيم الأسباب – كما يراها الباحث – إلى ذاتية (تخص الفلسطينيين) وأخرى موضوعية (خارجية – لا تأثير لهم عليها) لتسهيل عملية الفهم.
أولا: الأسباب الموضوعية
دعم أغلب الدول الاستعمارية للمشروع الصهيوني إثر التقاء مصالحهم معه
لا يخفى على الناظرين إلى واقع وتاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي أهمية الدور الذي قامت وتقوم به الدول الاستعمارية في ترسيخ أقدام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، فالدعم المالي الهائل، ونقل أحدث تقنيات الأمن والسلاح، والحماية من الملاحقة في المحافل الدولية، ما هي إلا أشكال ظاهرة من الدعم؛ وما خفي كان أعظم.
لكن، ينبغي الإشارة إلى نقطتين هنا؛ أولاهما أن السبب الرئيس وراء هذا الدعم هو التقاء مصالح المستعمرين مع المشروع الصهيوني، وليس مجرد جزء من مؤامرة كونية على الفلسطينيين، ولئن انتفت المصلحة فلن يستمر الدعم كما هو الآن، والنقطة الأخرى هي أن هذا الدعم – على أهميته – لا يعتبر مسوغا كافيا، إذ أن هذه الدول الاستعمارية نفسها فشلت في عدة حروب، بل وتكبدت خسائر جسيمة كما في الحالتين الجزائرية والفييتنامية، فلو استسلمت الشعوب لهذا المنطق، لما طالب ضعيف بحقه!.
ضعف الحواضن العربية والإسلامية
في مقابل الدعم الكبير الذي يتلقاه الكيان الصهيوني، يجد الفلسطينيون أنفسهم باستمرار بلا سند قوي يدعمهم في دفاعهم عن حقهم التاريخي في أرضهم، وبالرغم من الدعم الذي تلقوه من بعض الدول في فترات مختلفة، فإنه كان في الغالب دعما شكليا لم يقدم الكثير للقضية، ومع اختلال ميزان القوى الواضح، تكون غلبة الصهاينة منطقية في بداية الأمر، والمؤسف في الأمر هو أن هذه الدول بإمكانها تقديم المزيد، ولكن يبدو أن الأمر ناتج عن ضعف في الإرادة تجاه حل الموضوع، أو ارتهان قرار هذه الدول بمصالح القوى الاستعمارية.
الدعم الذي ينشده الفلسطينيون هو وجود حواضن ثنائية القطب؛ رسمية وشعبية، تشمل الحكومات والمؤسسات والشعوب العربية والإسلامية؛ إذ هم الأكثر التصاقا بهموم ومشاكل الفلسطينيين المباشرة، وطالما لم تتشكل هذه الحواضن، فإن أمد الاحتلال سيطول أكثر مما يُتصور.
تأخر تشكّل الهوية الوطنية الفلسطينية
في الحقيقة أن هذا الأمر من أهم العوامل التي يتم إهمالها حين مناقشة مسألة تأخر التحرير؛ فالهوية الوطنية الفلسطينية لم تتشكل بالفعل إلا في وقت متأخر، بالتزامن مع الانتداب البريطاني، ولعل جزءا من السبب هو طريقة حكم العثمانيين للمنطقة؛ فبالرغم من وجود الشعب الفلسطيني على هذه الأرض من آلاف السنين، إلا أنه لم يكن دارجا أن يتكلم أحد باسم من يسكنون هذه البقعة من الأرض، وليست هذه مشكلة الفلسطينيين وحدهم، بل إن غالبية العرب يعانون من تقسيم "سايكس-بيكو" الجائر الذي يؤثر سلبا على مصائر العرب حتى اليوم.
هذا التأخير أدى بدوره إلى تأخير تشكيل قيادة وطنية جامعة تسعى للتحرير ولتحقيق مصالح الفلسطينيين، وللأسف، فإن الهوية الوطنية ما زالت تواجه عدة تحديات عصيبة، فالشعب الفلسطيني متشرذم إلى عدة قطاعات؛ فهناك اللاجئون وفلسطينيو الشتات، وفلسطينيو ما داخل الخط الأخضر (تحت السيطرة المباشرة للاحتلال)، وأولئك الذين في الضفة الغربية وقطاع غزة، كلٌ من هذه القطاعات له حاجاته وظروفه الخاصة، وبدون تشكيل واجهة تمثلهم جميعا فإن التحرير سيتأخر ولا شك.
وفي الحقيقة، يجدر بنا الإشارة إلى أن تأكيد الهوية الوطنية الفلسطينية هو ضرورة نضالية في الأساس، وليس بهدف العزلة عن المحيط، هو ضرورة لأن العدو الصهيوني بنى كيانه على هذا الأساس (أي أن فلسطين هي "أرض بلا شعب")، ولا يستطيع نقض كيانه الغاصب إلا بتأكيد هذه الهوية ابتداء.
ثانيا: الأسباب الذاتية
أما بالنسبة للأسباب الداخلية، فعادة ما يقل الحديث عنها في الأوساط الفلسطينية؛ إما غفلة وجهلا بها، أو عمدا كي لا تتضرر مصالح المتنفذين.
أزمة القيادة الموحدة
لقد كثر الحديث عن أزمة القيادة في الواقع الفلسطيني، ولكن إلى الآن لا يوجد بوادر حل لهذه المشكلة، إن عدم توحيد القيادة الفلسطينية، وعدم تمثيلها لكل قطاعات الشعب لهي من أكبر العوائق أمام التحرير.
في الحقيقة، هذه الأزمة ليست حديثة كما يظن البعض؛ كما أن حلها ليس بالسهولة المتوقعة، إذ أن أزمة الهوية والطبيعة الجغرافية يشكلان تحديا صعبا أمام توحيد القيادة؛ والناظر إلى تاريخ فلسطين المعاصر يجد عدة حالات من الانقسام وشق صف القيادة الموحدة؛ فمنظمة التحرير الفلسطينية كانت قد انشقت عن حركة التحرر (الهيئة العربية العليا) التي كان يقودها الحاج أمين الحسيني؛ ولاحقا، تسببت اتفاقية أوسلو (عبر التنازلات وتوجيه الدفة نحو التسوية السلمية مع المحتل) في حدوث انقسام هائل في رؤى الشعب الفلسطيني، مما مهّد الطريق لظهور حركة حماس كقوة وازنة بسبب تمسكها بخيار المقاومة كخيار استراتيجي لتحرير فلسطين.
وبعد عدة سنوات، ومع استمرار سير السلطة الفلسطينية في مسلسل التنازلات اللامنتهية، حدث الانقسام الأخير بين فتح وحماس بُعيد فوز الأخيرة بالانتخابات عام 2006. وللأسف، فإن هذه الانقسامات تحرمنا بالفعل من تحقيق أي نصر كامل على مختلف الصعد؛ فنصر المقاومة في غزة يعرقله التناكف السياسي، ونصر الأسرى في إضراباتهم يعرقله جبن القيادة الرسمية وتغليب مصالحها.
من ناحية إدارية صرفة، فإن غياب القيادة الموحدة هو أمر عبثي ومدمر؛ فكيف بها وهي تُعنى بمصير شعب بأكمله! يجب أن يتم أخذ خطوات جدية في إنهاء الانقسام، وذلك لا يتم إلا بإشراك جميع أبناء الشعب الفلسطيني (أينما وجدوا) في إتخاذ قرار "من يقود".
إهمال أغلب فلسطينيي الداخل واللاجئين الفلسطينيين في الشتات، وعدم تعبئتهم في صفوف الثورة
من المدهش حقا حجم الجهد الذي بذلته الحركة الصهيونية العالمية في تجنيد يهود العالم لصالح قضيتها؛ بل إنهم تجاوزوا اليهود ليصلوا إلى العديد من النصارى والمسلمين!.
على النقيض، فإن جميع الأحزاب والتنظيمات الفلسطينية تهمل قطاعا أو أكثر من الشعب الفلسطيني؛ فأغلب اللاجئين قد أُسقطوا من مخططات حركة فتح منذ ما قبل أوسلو، وفلسطينيو الداخل (داخل الخط الأخضر) بعيدون تمام البعد عن أجندات كافة التنظيمات الفلسطينية الأساسية، ليس من المعقول أن يستمر تهميش هذه القطاعات بهذا الشكل، ويجب أن تعيد كافة التنظيمات حساباتها وتدخل هؤلاء في اللعبة ليساهموا بقوة في مشروع التحرير.
حالة الضعف والترهل الداخلي للأحزاب الفلسطينية
هذه النقطة في الحقيقة عبارة عن مظلة للعديد من الأسباب، تم وضعها في مكان واحد ليسهل ربط الأفكار ببعضها، أولا، معظم الأحزاب الفلسطينية (عدا حماس والجهاد وفتح) هي تنظيمات رمزية، ولا يوجد لها دور فاعل في الضغط على الأحزاب الرئيسة وفي المساءلة لأعمال السلطة والحكومة.
ثم إن كافة التنظيمات الفلسطينية تعاني من غياب الديموقراطية الداخلية، وإن وُجدت فإنها تكون مشوهة، لا تسمح إلا بتداول السلطة بين نفس المجموعة من الأشخاص المتنفذين؛ مما يقود إلى مشكلة أخرى وهي تغلغل الفساد الإداري والمالي في أجساد ومؤسسات هذه التنظيمات؛ وهذا أدى إلى غياب المساءلة مما يساهم في تغييب المعارضة القوية وبالتالي إهمال التحسين والتطوير المستمر.
ومن ناحية أخرى، فإن قيادة التنظيمات الفلسطينية هي قيادة شائخة؛ نفس الأشخاص الذين فشلوا في قيادة القضية في السابق ما زالوا يمسكون الدفة؛ وهذا مؤشر خطير ينذر بخلق فراغ قيادي حقيقي سيسبب الكثير من المصائب حتى بعد التحرير! ولعل التغيير الذي قامت به حركة حماس– بانتخابها هنية قائدا لها بدلا من مشعل– هو خطوة في الاتجاه الصحيح.
التعامل بمنطق "ردة الفعل" وليس المبادرة للفعل
الناظر إلى تاريخ الصراع مع المحتل الصهيوني لا يجد صعوبة في اكتشاف أن الفلسطينيين عادة ما يكونون مفعولا بهم لا فاعلين؛ إذ أنهم ينتظرون حدوث الفعل المعتدي ثم يقومون بردات الفعل، فمنها ما يطول كالانتفاضتين، ومنها ما يقصر كهبّة القدس وإضراب الأسرى الأخيرين، بل إنه حتى إذا وُجد الفعل؛ فيكون للتأجيج وخلط الأوراق وليس بغرض التسوية وإيجاد حل نهائي للصراع.
التعامل بمنطق ردة الفعل ناتج في الأساس عن غياب الرؤية الواضحة – وهذه إحدى الصفات المشتركة بين كافة التنظيمات الفلسطينية، وفي الواقع، هذا التعامل يولد آثارا سلبية على القضية نفسها إذ يعطل التحرير؛ وعلى الأفراد إذ يجعلهم مجموعة من السلبيين والعاجزين الذين ينتظرون عملا صهيونيا ليواجهوه؛ بل إنه أيضا يؤثر على معنوياتهم سلبا من حيث أن ردة الفعل توهم الشخص بأنه يقدم جهدا كافيا للتحرير دون أن يرى نتيجةً لذلك.