أقطن في القدس هذه السّنة الخامسة، أنا من قرية مجدل شمس، من الجولان السّوري المحتل الذي أحتل كما القدس في النكسة، والذي فرضت على أهله الجنسيّة الإسرائيلية، كما القدس، جنسية تم رفضها وإعلان الإضراب الكبير والكفاح الشعبي ضدها، والذّي أيضاً ضمّ إلى الأراضي المحتلة – كما القدس، سنواتي في القدس أضافت إضاءات مهمّة جداً على تكويني لهويتي السّورية الجولانيّة، فلطالما حاكى الواقع الفلسطيني المقدسي الذي أعيشه واقعي المشابه في الجولان السّوري المحتل.
كتبت هذا المقال، على أبواب الذكرى الخمسين للاحتلال، ولربّما فيه ما قد يعكس على الهويّة الفلسطينيّة المقدسيّة (كما عكست هذه الهويّة على هويّتي السّورية) مع العلم بأنه كُتِب موجّهًا للجمهور الجولاني.
ها نحن ذا على أبواب الخمسين عامًا من الاحتلال، يمكننا أن نطيل الكتابة صفحات على صفحات، لوحات على لوحات وشعارات على شعارات تنطوي، تحفظ وتنسى بعدها، ولكن لربما يجدر بنا محاولة تلخيص حالتنا وصيرورتنا الاجتماعيّة والسّياسيّة، ولذلك كتبت بعض النّقاط المترابطة ببعضها البعض، في محاولة تلخيص لحالتنا الراهنة:
أوّلًا– نحن موجودون اليوم، كمجتمع وأفراد، في "أزمة هويّة"، وقد تصبح أزمة عميقة جداً، إن لم ننجح في التعامل معها وتخطيها.
أزمتان مفصليتان هما اللتان مرّ بهما الجولان السّوري المحتل: الأولى، عام 1981، وقد مرّ بها الجولان بنجاح وفي أجوائها جاء الاضراب الكبير والرّفض لقرار الضّمّ. الثانية، نمر بها الآن – منذ اندلاع الثورة السّوريّة في آذار 2011 وما زلنا، ومن يعلم; ربّما تمرّ علينا بنجاح كسابقتها، وربّما تمرّ بتدهور وهبوط وفشل.
"لقد ضاعت هويّتا"، التي كانت واضحة، بين ثالوث قوّات: الموالاة للنظام في الوطن الأم سوريا، والمعارضة وقواتها، والكيان الصهيوني، وكل التعقيدات والقوّات العالميّة التي شاركت وتشارك بهذه "اللعبة" الثّلاثيّة. واضحٌ وبديهيّ أن "إسرائيل" قد استغلت هذا الضياع وهذه الأزمة في الجولان، لتسيير وتصيير سياساتها وتقوية وجودها في الجولان كبديل "صاحب مصداقيّة" لنشاطات سوريّة عدّة قد اختفت عن السّاحة منذ عام 2011، منها مخيّم الشّام والسّفر إلى الشّام للتعليم الجامعي واحتفالات عيد الجلاء وما الى ذلك من نشاطات تدور حول الهويّة السّورية لأهل الجولان.
تكمن أهميّة هذه النشاطات، مهما كانت بسيطة وعفويّة، بصبغ الساحة العامّة والحيّز العام الجولاني بالألوان السّورية، فعندما يتربّى طفل في قرانا ويرى في كل سنة احتفالات عيد الجلاء "المكتظة" بالناس، ستصبح الهويّة السّوريّة أمراً بديهيًّا وطبيعيّاً جداً له. هذه النشاطات (وبعضها لا زال يقام ولكن مع زوال الاكتظاظ الذي كان في الماضي، بسبب الانشقاق المجتمعيّ بين مؤيد ومعارض للنظام وبسبب الشّلل في النّشاط السّياسي) ترسّخ الهويّة السّوريّة في اللاوعي الجولاني، وتخلق انتمائًا وتمسّكًا معيّنًا، محليًّا جولانيًّا أو سوريًّا وحتّى عربيًّا، على خلاف الأطر الإسرائيلية التي تغلغلت، ولا زالت تتغلغل، في مجتمعنا مرتويةً من أزمتنا.
هذه الأطر تحاول، أو ستحاول، طرح الهويّة "الدرزيّة الموالية لاسرائيل" كبديل "صاحب مصداقيّة" للهويّة السّورية الفوق طائفيّة، أو حتّى للهويّة السّورية الدرزيّة عند الكثير من أهلنا. وهنا، يمكن طرح الكثير من العوامل والمؤثرات الإضافيّة التي تتسبب بنجاح أو فشل تغلغل هذه الهويّة المصطنعة "المسيّسة" لشبابنا وشابّاتنا، منها ما قد كتب حوله في السّابق.
علينا جميعًا، كي نتخطّى هذه الأزمة، أن نتشبّث أكثر من أي وقت مضى، وطبعًا قدر الإمكان، نحن وأطفالنا بالهويّة السّورية، وهنا يجدر الذكر بأن الهويّة السّورية لا تعني ضرورةً الانتماء إلى منظومة سياسيّة أو نظام حكم سياسي أو إلى دولة ما، بل تعني الهويّة السّوريّة الثقافيّة، كالتراث الشعبي والقصص الشعبيّة والأغاني والموسيقى الشّعبيّة والفن السّوري وغيره. فهذا هو نوع من أنواع النّضال الشّعبي – فالنضّال ليس فقط بالحجارة والاشتباك، بل أيضًا وأولًا نضال ثقافيّ.
يجب علينا أن نتذكّر بأن لدينا – خاصة بالأونة الأخيرة – الفعاليّات والأطر الجديدة، كالجوقات والفرق الموسيقيّة والندوات والمسرحيّات المتجددة والنشاطات المختلفة، فلكل من يطلب البدائل للأطر الإسرائيليّة: لدينا أطر، ولدينا المقدرة والطاقات الملائمة لإنشاء المزيد من الأطر الجولانيّة المستقلة لأولادنا ولكبارنا.
ثانيًا – بما يتعلّق بالهويّة الدّرزيّة: قد يظن البعض بأنّها تملي علينا ترك هويّتنا السّوريّة وطرح الهويّة الطّائفية كبديل لها، وهذا بالضّبط ما تنوي "إسرائيل" تطبيقه، ولكنّني وعلى الصّعيد الشّخصيّ أظنّ بأن هويّتنا، وخصوصيّتنا الدرزيّة، وطبعاً تراثنا الدّرزي، يمليان علينا أن نكون سوريين فخورين، على خطى سلطان باشا الأطرش وثوار ومحرري سوريّا من الدّروز. إن امتدادنا التاريخيّ "الدّرزي" في المنطقة، يعلّمنا عن التواصل الطبيعي والمطلوب بين الهويّة الدرزيّة لسكان المنطقة وبين تلك السّوريّة. لطالما ارتوت الهويّة الدرزية من الهويّة السّوريّة الوطنيّة، والعكس صحيح.
ثالثًا – الخطاب وأهميّته: أرى أهميّة كبيرة بنوعيّة الخطاب الاجتماعي والإنتمائي، إن صحّ القول، على المواقع الاجتماعية وفي النقاشات في المقاهي وفي البيوت والمدارس، لا يمكننا أن ننهض من أزمتنا، طالما اصطلحنا واستعملنا خطاب "جلد الذّات" العربيّ، فكيف ننهض ونحن نتكلّم يوميًا عن كوننا "عرب جرب"، وعن أمّة فاشلة ومتخلفة ننتمي إليها.
لدينا، وبشكل خاصّ في الجولان السّوري المحتل، الكثير من الإنجازات على كل المستويات التي ممكن أن نفتخر بها ونتعلّم منها ونقدّمها ونتقدّم نحن بالتّالي على أثرها. الانتقاد الدّاخلي والذّاتي مهم جداً، ولكن أيضًا الخطاب الفخور والمشجّع هو من مقوّمات النهضة والتقدّم المجتمعي. علينا أن نجد نوعًا من التّوازن بين النّقد الذاتي الدّاخلي وبين الخطاب المشجّع والنّاهض والفخور.
رابعاً – تجارب سابقة وحاليّة لشعوب أُخرى. بالوعي الشخصيّ والفردي، خمسون عامًا من الاحتلال، هو عدد كبير، عمر كامل، مما قد يحبط البعض. ولكن بالتجربة الشعبيّة والجماعيّة، فهو عدد صغير، فإن الارلنديين مثلاً قد ناضلوا ما يقارب الـ 700 سنة ضد الاحتلال البريطاني حتّى تحرّروا واستقلّوا. في علم الاجتماع، الكثير من النظريّات تنصّ على أن على كلّ احتلال الزّوال، عاجلاً أم اجلاً، فأرضنا سوريّة، شئنا أم أبينا، وستبقى كذلك، فهذه حقيقة تاريخيّة ودوليّة وقانونيّة، لا نقاش فيها. ومجدّداً، السؤال المركزيّ هنا ليس "لمن تنتمي الأرض" أو تحت أي سلطة نريدها أن تكون، بل "من نحن؟" سكّان هذه الأرض.
يمكننا وبكل صدق أن نعيش ونموت كسوريي الهويّة تحت حكم الاحتلال الإسرائيليّ، يجب علينا ألا نتردد في أن ننسب نفسنا للشعب السّوري، فهذا امتدادنا القوميّ التاريخيّ الطبيعيّ الذي قطع جزئيَّا مع احتلال "إسرائيل" لأرضنا، ولا يعني أننا نريد الأرض أن تكون تحت حكم هذا أو ذاك، فهذا الانتماء هو أساسًا تعريف شخصي فردي، ومن ثم مجتمعي، وليس عليه بالضرورة أن يكون سياسيًّا أو مرتبطاً بنظام حكم معيّن.
خامسًا وختامًا - أدعو كل الجولانيين للتّحدّث عن الاحتلال في الـ 67، عن حرب تشرين في الـ 73، عن الإضراب الكبير وعن النّضال الكبير الذي كان وما زال، بمختلف الأشكال، في ذكرى الخمسين عامًا، علينا أن نطرح تراثنا وذاكرتنا الجماعيّة على بعضنا البعض وأن نناقشها كي نحسّنها ونبحث عن مغزى منها. علينا أن لا ننسى تاريخنا وامتدادنا وأن نكون فخورين، بالنجاحات العديدة، وأيضًا أن نتعلم من الفشل والأخطاء التي لا بد من تواجدها.
النّقاش والتّعليم والثّقافة والكتب والنّدوات والموسيقى والفنّ: كلّها أشكال مقاومة ونضال، فلسنا مهزومين ما دامت فينا حركة ثقافيّة وحياة.