غزة – خاص قدس الإخبارية: في زاوية من منزلها في خان يونس، تجلس آمنة تروي لابنتها كوثر كيف حملت شقيقتها أمل وركضت بها، وخلفها يدوي القصف على مدينة بئر السبع قبل69 عاما، وأصوات القنابل والرصاص تلاحقها بلا توقف، وطفلتها أمل تبكي وتبكي مذ ذاك الحين حتى اليوم.
آمنة زايد سيدة (83)عاما إحدى الشهود على النكبة وأوجاعها التي تذكرها بتفاصيلها، فعندما احتلت العصابات الصهيونية مدينة بئر السبع، كانت آمنة (14) عاما متزوجة تحمل بحضنها طفلتها الرضيعة أمل.
تروي آمنة لـ
قدس الاخبارية، "خرجنا من بيوتنا ونحن لا نحمل إلا الملابس التي نرتديها، كانت خفيفة جداً لا تقينا البرد (..) أخذت ابنتي الوحيدة وهي رضيعة بشهورها الأولى غير قادرة على تحمل البرد الشديد".
من لم تقتله نيران العصابات الصهيونية قتله برد الشتاء، تروي آمنة، "كنت أحمل أمل بين يدي وأحاول تدفئتها، ولكن لم يكن معي شيئاً، فلم يتحمل جسدها الصغير البرد واستشهدت".
وتتابع آمنة التي رزقت فيما بعد بأربعة أبناء، "تركنا أرضنا وبيوتنا وجميع ما نملك، كنا نعتقد أن الخروج لأيام قليلة فقط، ولكن خرجنا والحسرة في قلوبنا على الذكريات الجميلة التي نتمنى أن نعود إليها".
وتضيف، "لم نشعر ببرودة فصل الشتاء ولم نشعر بالجوع أو العطش، كنا في حالة خوف من الطائرات التي تلاحقنا وتطلق النيران نحونا كلما رأت أشجار وأراضي مزروعة تقصف نحوها، ونحن تحت تلك الأشجار نستتر من الخوف ".
وعن محاولات أهالي بئر السبع بالمقاومة والتصدي للعصابات الصهيونية، تروي آمنة، "كان هناك مجموعة من المناضلين والمتطوعين حاولوا أن يدافعوا عنا وعن أرضنا ويوقفوا الهجرة ولكن لم يستطيعوا فالعصابات الصهيونية كانت يهاجمنا براً وجواً"، مضيفة، " لم يستطيعوا مواصلة الدفاع ولم نستطيع أن نرجع بسبب الطائرات التي كانت تقصف نحونا، فكثير من المسنين سقطوا على الارض واستشهدوا من التعب وعدم القدرة على المشي".
أكثر من يومين وآمنة وأهالي مدينتها يواصلون السير إلى حي الشجاعية شمال قطاع غزة هربا من قصف العصابات الصهيونية، "لم تتركنا الطائرات، بل كانت تلاحقنا عندما وصلنا غزة، وكلما رأت تجمع أشجار تطلق النار نحونا" تعلق آمنة.
وتردف، "جمعنا بعض الأكياس وصنعنا منها خيم لنجلس فيها، كنا نشرب الماء المليء بالديدان وأوراق الشجر من أجل البقاء على قيد الحياة، عشنا أيام صعبة وذقنا المرار".
حياة مضنية شاقة كان يمر بها أهالي بئر السبع، رغم ذلك فلا يمر يوم دون أن يتمنوا العودة إلى مدينتهم، ولو كلفهم ذلك ما كلفهم، تقول آمنه، "كنت أعيش في خيمة من الشعر، كنا نطهو أكلنا من القمح المزروع، إذ تشتهر مدينة بئر السبع بزراعة القمح".
وتشير إلى أن أهالي بئر السبع اشتهروا بأكلة "الجريشة" المكونة من الحبوب القمح والشعير والفول، وذلك لوفرة هذه المحصولات آنذاك في المدينة.
وتضيف،"كنا نربي المواشي، وأتذكر أنه كان يوم الاثنين مخصص لبيع وشراء الحلال، إذ يأتي الجيران من المدن الأخرى إلى بئر السبع، ونحن نشتري منهم المحاصيل الأخرى مثل الفواكه والخضراوات وغيرها مثل يافا".
وعن العلاقات الاجتماعية بين الناس، تروي آمنة، "عندما يكون عرس في أحد العائلات جميع أهالي المدينة يشاركوهم الفرح ويحملون الهدايا والذبائح ، وكذلك بالأحزان تتوقف الأفراح والزيارات عندما يكون عزاء في أحد العائلات، كنا نتشارك الأكل والشرب ونتجمع دائماً، علاقة قوية جداً نفتقدها في يومنا هذا".
آمنة كانت تروي بتشوق وسعادة ذكرياتها في بئر السبع، إلا أن مطالبتها بالحديث عن تفاصيل التهجير عن مدينتها ليس بالأمر السهل، فآمنة رغم أن تلك اللحظات بتفاصيلها ما زالت عالقة بذهنها، إلا أن حديثها عنها لا تجري إلا بالكثير من الدموع.
"لم نكن نعلم أنها اللحظة الأخيرة لنا في مدينتا، كنا نعتقد أننا سنعود في ذات اليوم، ولكن ما حدث كان جريمة كبيرة (..) خرجنا تحت تهديد السلاح، والطائرات فوقنا تطلق النيران نحو من لا يستجيب لأوامرها".
69 عاما مضى وآمنه بعيدة عن مدينتها بئر السبع، لم تفقد يوما حلمها بالعودة إليها مجددا، "أتنازل عن بيتي الآن حتى ولو كان قصراً لكي أعود الى أرضي، فأنا أفضل العودة إلى ذكرياتي الجميلة في بئر السبع (..) سنعود وهذا ما أعلمه لأحفادي".