“مالك وللفلسطينيين؟”، كان هذا السؤال الذي سأله “جلوب باشا” – المعروف شعبيًا بلقب “أبو حنيك” – للمناضل الأردنيّ محمد حمد الحنيطي، عندما رأى منه شدّة اهتمامه وصدقه في القتال في فلسطين خلال حرب عام 1948. كان الحنيطي رافضًا للصهيونية والاستعمار البريطاني، منطلقًا من قلب الأمة العربية دفاعًا عن فلسطين، ومحمّلًا بإرث رفض تقسيم الوطن العربي إلى دويلاتٍ. لذلك كان ردّ الحنيطي: “يا باشا، أنتم من رسمتم حدود هذه البلاد، قَبْلَكُم ما كانت فلسطين ولا الأردن ولا لبنان ولا سوريا. قَبْلَكُم كنّا نَشْتَري من أسواق دمشق، ونُشَتّي على ساحل المتوسّط. يا باشا، دفاعي عن حيفا هو دفاعٌ عن قريتي أبو علندا. هاكَ رُتَبَك، فرُتَبُ الثوّار أعلى”.[1] وهكذا كان. الحنيطي قائداً لحامية حيفا في معارك 1948 بعد استشهاد محمد نورهان التركي، وهو ابن مفتي اسطنبول، خلال هجومٍ على الحيّ الاستعماريّ “بات جاليم” غرب حيفا، بواسطة سيارةٍ مليئةٍ بالمتفجّرات في تاريخ 4/3/1948، تمّ تعيين محمد حمد الحنيطي من قرية أبو علندا خلفًا له لقيادة سرية الجيش العربيّ الأردنيّ في حيفا. يَرِجعُ نسَبُ الحنيطي إلى قبيلة الجغايفة من أسباط النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وكان قائدًا في الجيش الأردنيّ، ولُقّب بالحنيطي كون والده كان تاجرًا أردنيًا معروفًا بتجارته للحنطة. فور وصوله فلسطين تمّ تعيين الحنيطي ضمن الجيش الأردنيّ للدفاع عن حيفا، فكان مسؤولًا عن عمليات قطع الطريق بين يافا وحيفا. وكانت قرى جبع وإجزم قضاء حيفا أوّلى القرى التي هاجمت الطرق وأطلقت النار على المركبات الصهيونية بهدف قطع الطريق أمام قوافل الإمداد للمستعمرات. كما أن المناضلين قاموا على هذه الطريق بخطف مستعمرين وفاوضوا عليهم وبادلوا بهم أسرى فلسطينيين. كان الحنيطي يتمركزُ مع سريّته في منطقة “الريفاينري” والتي تقع في خليج حيفا، لكنه استقال لاحقًا من الجيش الأردنيّ بعد ضغوطات الانتداب البريطانيّ، وبفعل تحريض عصابات “الهاغاناه”. لكنه لم يعدم طريقًا للجهاد والنضال لأجل فلسطين، فقد انضم الحنيطي مع عدد من جنود سريته إلى المجاهدين المتطوعين في حامية حيفا، وكان حينها في الثلاثين من العمر. تعاقد الحنيطي مع اللجنة القومية برئاسة الحاج أمين الحسيني، على أن يتم إمداده هو ومن معه من المناضلين بـ 300 بندقيةٍ من نوع “إي”، 400 بندقيةٍ من طراز “تومي”، 12 مدفعًا رشاشًا “بون”، قنابلَ يدوية، سياراتٍ وملابسَ عسكرية. قبلت اللجنة بهذا العرض وتعهّدت أن تدفع لكلِّ محاربٍ 250 جنيهًا فلسطينيًا[2]. نظّم الحنيطي المقاتلين في حيفا وقسّمهم إلى ثلاث فرق، وقد وصل عددهم تقريبًا إلى 350 مقاتلًا: فرقة أبي إبراهيم الصغير: في ثورة 1936 كان أبو إبراهيم الصغير قائد منطقة الجليل، وعُرِف عنه حسّه الأمنيّ الحريص والزيادة في الكتمان، فقد كان يُصدر بلاغاتِه العسكرية حول العمليات التي ينفّذها ضدّ قوات الاستعمار البريطاني ومستوطنات اليهود في المنطقة الشمالية لفلسطين باسم “المتوكّل على الله عبد الغفار”. فرقة اللجنة العربية: تتألّفُ من مجموعات ضواحي حيفا وجنود الجيوش النظامية العربية. فرقة اللجنة القومية في حيفا: التي ترأسها كلّ من محمد الحنيطي نفسه بالإضافة إلى نمر الخطيب. قُسّمت المدينة تحت إمرة الحنيطي إلى عشر قيادات وهم: سرور برهم[3]، عبد الخطيب أبو نمر، محمد أبو عزيز، أبو علي دلول، حسن شبلاق، أبو إبراهيم عودة، راشد الزفري، نمر المنصور، جميل باكير، يوسف عبد الخالف الحايك، ومجموعاتٌ أخرى من المتطوّعين من طيرة حيفا والمناطق القريبة.[4] قافلة الحنيطي أثناء الاستعداد لمعارك عام 1948، كان المناضلون يعانون من قلّة الأسلحة، وضعف الإمدادات. كانت الأسلحة التي بيدي المناضلين شحيحةً وقديمةً، وصل غالبُها إلى فلسطين من مخلّفات الحرب العالمية الثانية في الصحراء الغربية، فكان قسمٌ كبيرٌ منها معطّلًا وغيرَ صالحٍ للاستخدام، وكانت تُصيب أحيانًا المقاومين عن طريق الخطأ وتسبّب لهم أضرارًا بالغة. إضافة إلى ذلك فقد كان هناك قرارٌ من مجلس الأمن يحظُر بيع السلاح للدول العربية المحاربة في فلسطين، فكانت هناك إشكاليةٌ كبيرةٌ لدى الجيوش النظامية وحتى المقاومين في شراء الأسلحة. وبالتالي وقعت العديد من صفقات الأسلحة الفاسدة، اشتهر منها صفقة القنابل اليدوية الإيطالية للجيش المصري والذي قرّر أن يشارك في الحرب “والناس راجعة من الحج”، أو كانت صفقاتٍ بكمياتٍ قليلةٍ وليست بنفس المستوى أو تفوق السلاح والجودة مقارنةً بالسلاح الصهيوني. في هذا السياق كانت هناك حاجةٌ ماسّةٌ للسلاح في حيفا لإمداد المقاومة. خروج الحنيطي لجلب السّلاح من لبنان في 11 آذار من العام 1948 خرج الحنيطي إلى بيروت عبر طريق رأس الناقورة – بيروت، قاصدًا جلب السّلاح للمقاومة. وفي طريق عودته مع من رافقه من مناضلين مرُّوا بصيدا، فقام أهلها بإهداء القافلة العائدة إلى فلسطين سيارةً جديدةً مليئةً بالأسلحة حُبًا ودعمًا للمقاومة ولفلسطين. عادت القافلة محمّلةً بعتادٍ ضخم، كان بحوزتهم خمس سياراتٍ وسائقيهم، وسيارةٌ خاصةٌ للقائد الحنيطي معه أربعةٌ من رفاقه. فور وصولها رأس الناقورة في تاريخ 17/3/1948، اتّصل الحنيطي بالقاعدة العسكرية للمقاومة في حيفا ليُعلمهم عن وصوله ولتحضير الطريق وتأمينها للقافلة. في ذلك الوقت وتحديدًا قبل ذلك بـ ثمانِ سنوات، تأسّس ذراع “الشاي” وهو جهاز المخابرات لعصابة “الهجاناه” والذي أصبح لاحقًا بعد تأسيس دولة العدو جهاز المخابرات الرسميّ “الشاباك”. كان “الشاي” يتنصّت على محادثات الحنيطي وعَلِمَ بأمر قافلة السلاح. وعلى إثر المعلومات أمر قائد لواء “كرميلي” – لواء الشمال الجنرال “بن عامي” الكتيبة 21 بالإيقاع بالقافلة ونصب الكمائن لها وسلب السلاح. خطّطت “الهجاناه” لنصب كمائن للقافلة في جهتين مختلفتين- الأولى بالقرب من عين سارة بالقرب من مستعمرة “نهاريا” والكمين الثاني بالقرب من مستعمرة “موتسكين” (تقع شمال شرق حيفا، بنيت في العام 1940، وكانت قاعدةً عسكريةً بريطانيةً ومحطّة حراسةٍ صهيونية يُطلق على أفرادها “ناتوريم” أي النواطير– وكانت وظيفتهم مراقبة المستعمرات والقواعد العسكرية والطرق الرئيسية لرصد عمليات تسلّل المقاومين وتهريب السلاح). ولكون جنود الكتيبة 21 كانوا آنذاك غير مستعدّين للذهاب لوحدهم، فأمر قائد لواء الشمال “بن عامي” عصابات “البلماح” أن تقوم بالمهمّة وأن توقع بالقافلة. في ذلك الوقت ومع اقتراب القافلة نواحي عكا، طالبت القيادات والمناضلون من الحنيطي التوجُّه إلى عكا للاستراحة وللتأكّد من سلامة الطريق إلى حيفا أو تهريب الأسلحة عبر البحر، إلّا أنه رفض وخاف من تعرّض القافلة لهجومٍ مُباغتٍ في عكا وأصرّ على المُضيّ إلى حيفا بأسرع وقتٍ، كما رفض التهريب عن طريق البحر بسبب الوقت الطويل لتهريب كلّ الكمية. وفور وصول الحنيطي تخوم عكا انضمّ إليه 12 مقاتلًا وانضمّ إليهم من حيفا 6 مناضلين مهمّتهم تأمين القافلة من الأمام، ليصبح عددُ المناضلين في القافلة 31 مناضلًا. لم يكن بالإمكان أن تخرج كتيبة “البلماح” وتنتظر القافلة في البرّ، لأن طريق القافلة مكشوفٌ وبحاجةٍ إلى خدعة، فقاموا بوضع مقاتلٍ على دراجةٍ ناريةٍ في طريق القافلة ليشخّصها من بعيدٍ فور قدومها وليعلم الكتيبة بوصولها استعدادًا لضربها. كان نمر الخطيب[5] قد انضم للقافلة من عكا نحو حيفا وخرج بسيارة أجرةٍ محمّلةٍ بالسلاح وسلك طريقًا آخر، لكنه لم يسلم كذلك، فقد هاجمته عصابات “الهاجاناه”، وعَملت على مُحاولة اغتياله ضِمن ما أسموه عملية “زرزير”، قام اثنان من المُنظّمة بِإطلاق 32 رصاصةً على سَيارة الأُجرة التي كان يستقلُّها، وَأُصيب بإحدى الرصاصات في رِئَته وَثلاثة في كتفه الأيسر، انتقل بعدها لخارج فلسطين. خارج فلسطين طَوال فَترة الحرب، وَأسفرَ ذلكَ الهجوم عن مَقتل أحد الرُكاب وَإصابة آخر. وقد قام الصهاينة لاحقًا بدفن السيارة على الشاطئ ليُخفوا تفاصيل الحدث. أما بقية القافلة فقد تم الهجوم عليها بالقرب من مستعمرة “موتسكين”. شاهد راكب الدراجة القافلة تصل قرابة الساعة 15:30 وبدأ الاشتباك. نجحت السيارة الأولى باجتياز الكمين ووصلت حيفا، والسيارة الأخيرة غيّرت مسارها وعادت إلى عكا، أما ما تبقى من القافلة وبما فيها شاحنات نقل السلاح فقد تعرضّت لإطلاق نارٍ كثيفٍ. بعد تأكّد الحنيطي أنّه لا مفرّ من الاشتباك العنيف، وخشي من استيلاء الصهاينة على شاحنات السلاح التي كانت تحمل بحسب تقديرات الصهاينة قرابة الـ 15طنًا [6] من المتفجّرات والأسلحة الفعالة (اشتملت الأسلحة على 550 بندقيةٍ فرنسية الصنع، و120 ألف طلقة، و 2 طنٍ من المتفجرات. وفي روايةٍ أخرى يُقال أنّ حمولة الشاحنة كانت تصل إلى 12 طنًا)، فقرر الحنيطي تفجير الشاحنة، واستُشهد هو ومن معه في السيارة، بالإضافة إلى استشهاد مناضلين خلال الاشتباك. في معركة قافلة الحنيطي إذن استُشهد قائد حامية حيفا محمد الحنيطي ومعه 16 مناضلًا منهم سائق السائق المناضل ألبير الأرمني الذي تقطّع جسده وتفتّت بالكامل، ويُقال أنّ التفجير حفر في الأرض حفرةً مقدارها 20 مترًا ودمّر عدّة منازل ومخزنًا للأسلحة في المستعمرة، فداءً لفلسطين ومنعًا لأن يستأثر الصهاينة بالسلاح ويستولوا عليه. يروي ابن الشهيد الحنيطي عن أبو سالم من عرب خضير من بني صخر، وقد كان مُحاربًا مرافقًا للشهيد الحنيطي في نفس السيارة أثناء مسير القافلة: “أنّه عند دخول القافلة انقضّ عليها حوالي 4 آلافٍ من عصابات الهاغاناه، ومع بداية المعركة قُتل جميع حرّاس القافلة برصاص قناصة الهاغاناه، واستمرّت المعركة أكثر من 3 ساعاتٍ، وكانت حاميةَ الوطيس وغير متكافئة، استُشهد الجميع بمن فيهم سرور برهم الذي كان في سيارةٍ أخرى مع زوجته، وبقيتُ أنا والحنيطي الذي كان يحمل رشاشًا من نوع برن، وبعد أن أصيب الحنيطي في المعركة، حاولتُ سحبه لإنقاذه، إلا أنّه رفض، وأصرّ على تفجير الشاحنة، فتراجعتُ أنا للخلف، ثمّ ألقى الحنيطي بقنبلةٍ داخل الشاحنة فانفجرت بحمولتها”. بعد استشهاد المناضل الحنيطي، تولّى حامية حيفا أمين عز الدين، لكن استشهاد الحنيطي وعدم تمكّن توصيل الذخيرة إلى حيفا أدّى بالنهاية إلى ضعف مقاومة مدينة حيفا وخسارتها، وفقدت المدينة الساحلية قياديًا مركزيًا في التنظيم والذي كان يبثّ الحماسة بين المقاتلين العرب في حيفا. وبحسب رشيد الحاج، يُعدّ محمد حمد الحنيطي ومساعده سرور برهم إخوة العقيدة وأصدقاء النضال وتوأم أول عمليةٍ استشهاديةٍ على أرض فلسطين. بيان اللجنة القومية لمدينة حيفا 19/3/1948 نعي شهداء أبطال هذه قافلةٌ من قوافل الشهداء تلقى ربّها عاملةً مجاهدةً في سبيل الوطن، ولا يسع اللجنة القومية لمدينة حيفا إلّا أن تنعى إلى الأمة العربية الكريمة زُمرةً من خيرة أبنائها ورهطاً من أعزّ جنودها وهم: قائد حامية حيفا الباسل محمد بيك حمدالحنيطي، سرور برهم – أبو محمود، فخر الدين عبد الواحد– مصري، عمر خالد الخطيب، أحمد خضر موسى، أحمد وجيه رحّال، يوسف الطويل، علي كبار، حسن سلامة–أردني، عطا الله سلامة– أردني، علي شجاع، محمد مصطفى خليل، سائق السيارة الأرمني ألبير). استشهدوا جميعًا نتيجة اعتداءٍ غادرٍ في الساعة الثالثة من مساء يوم الأربعاء 17/3/1948. واللجنة القومية، إذ تنعى هؤلاء الأبطال للأمةالعربية، لَواثقةٌ بأن دمهم الطاهر لن يُنسى.) يتبع المصدر: موقع باب الواد —————————- الهوامش: [1] تقرير حول الشهيد في صحيفة الرأي الأردنية – http://alrai.com/article/569739.html. [2] أوراق أردنية. العناقرة، محمد محمود. بواعنة، لؤي إبراهيم، دار الخليج، 2017.، ص 247. [3] كتب الزعيم الحيفاوي رشيد الحاج إبراهيم في مذكّراته أنّ المحارب سرور برهم قد انضمّ للفصائل المسلّحة التي أقامها الشيخ المجاهد عز الدين القسام في مطلع الثلاثينيات في منطقة حيفا والشمال، وأثناء الثورة الفلسطينية 1936- 1939م كان مسؤولًا عن تزويد فصائل الثورة بالمؤن والذخيرة، وتزعّم تنظيم”الكفِّ الأسود” الذي لاحق سماسرة الأرض والعملاء. [4]مذكرات سرور برهم. [5] كان الخطيب قد تولى عدة مناصب منها، رئَاسَة الجَمعيَّةِ الإسلاميَّة المسِيحيَّة وَمَنْصِبُ الأمينِ العَامِ للجَبهَةِ العَربيَّةِ العُليَا. واختِيرَ وزيراً للدِفَاع وَالدِعَايَة في أولِ وزَارَة ثوريَّة عَقِب الانتداب، كما اعتقل عدة مرات في الأعوام 1938 و 1939 وزج في سجن عكا. انتمى لجماعة الشيخ القسام وشارك في فعاليات الخلايا السرية المسلحة التي أقامها لمقاومة الانتداب البريطاني والنشاط الصهيوني، أثناء ثورة 1936 -1939 شارك في فعاليات لوجستية داعمة للثورة وسجن قرابة السنة في سجن المزرعة. وفي الأربعينات كان من مؤسسي جمعيات إسلامية في حيفا، منها جمعيتا الاعتصام وفتيان محمد، كما كان مسؤولا عن لجنة مقاطعة الفعاليات والبضائع اليهودية في حيفا[5]. وتمّ تنصيبُ نمر حمد الخطيب من حيفا القائد لجماعة الإخوان المسلمين، وهو عالمٌ فلسطينيٌّ كان مؤيدًا للحاج أمين الحسيني، عمل على تأسيس جمعية الاعتصام في حيفا عام 1941 ويُعتبر أوّل من ألّف كتبًا حول النكبة والقضية الفلسطينية، وكانت عائلة الخطيب تمسك زمام الأمور في حيفا في شؤون الإفتاء منذ العهد العثماني حتى سقوط حيفا. [6] Kimche, Jon and David (1960) A Clash of Destinies.The Arab-Jewish War and the Founding of the State of Israel. Frederick A. Praeger. Library of Congress number 60-6996. Page 119.Spelling Mohammed el-Hamd el-Haniti.