وأخيرًا أطلت حركة حماس بوثيقتها السياسية الجديدة التي كانت قد أعلنت عنها في الفترة الماضية، والتي تأتي بالتزامن مع انبثاق قيادة جديدة للحركة تزيح عن المشهد أبرز وجوهه السياسية وهو رئيس مكتبها السياسي منتهي الولاية خالد مشعل والذي تربع على هذا المنصب طيلة 21 عامًا من عمر الحركة الذي قارب على الثلاثين عامًا.
ولا شك بأن إعداد حماس لوثيقة مبادئ جديدة تتعامل بها في مواقفها وتحركاتها السياسية المقبلة بعد 30 عامًا من تأسيسها، يمثل خطوةٌ رائدة بالنسبة لهذه الحركة الشابة مقارنةً بغيرها من التنظيمات التي وصل عمر بعضها إلى نصف قرن دون أن تطوّر في برامجها السياسية ومنهجياتها وتسليم مراكز القيادة فيها بالطرق الديمقراطية كما فعلت حماس، وهذه نقطة تحسب فعلًا للحركة.
أما على صعيد المضمون فلم أرَ في الوثيقة أشياءً جديدة باستثناء نقاطٍ معدودة، أولها وأبرزها هو انفصالها التنظيمي عن جماعة الإخوان المسلمين وتنظيمها العالمي، حيث عرّفت نفسها بـ"حركة تحرر ومقاومة وطنية فلسطينية إسلامية"، مرجعيتها الإسلام في منطلقاتها وأهدافها ووسائلها"، خلافًا لما جاء في ميثاقها عام 88 والذي نصّ في مادته الثانية على أن "حركة المقاومة الإسلامية جناح من أجنحة الإخوان المسلمين بفلسطين"، وفيما يرى البعض بأن غياب ذكر الإخوان المسلمين عن الوثيقة الجديدة لا يعني بالضرورة انفصالها عن الإخوان، إلا أن رد خالد مشعل بالأمس على سؤال في ذات السياق كان جوابًا صريحًا يؤكد فكرة الانفصال التنظيمي حين قال، بأن حماس تتبع فكريًا للإخوان المسلمين لكنها مرجعيتها في قراراتها إلى قياداتها الفلسطينية فقط!.
أما النقطة الثانية والتي لاقت جدلًا واسعًا في الأوساط المحلية والدولية، وهي إعلان الحركة بالقبول بدولة فلسطينية "على خطوط الرابع من حزيران/ يونيو 1967"، فلم تكن وليدة اللحظة، حيث سبق لحماس أن عبرت عن هذه النقطة بتصريحاتٍ ومواقف سابقة، حتى أن الشيخ أحمد ياسين كان قد تحدث في هذا خلال لقاءٍ مع الإعلامي أحمد منصور في برنامجه "بلا حدود"، حيث أوضح موافقته على دولة على أراضي 67 واضعًا عدة شروط منها الانسحاب الكامل وإزالة آثار الاحتلال كافة بما تشمل الضغوط الاقتصادية والاستيطان مقابل هدنة طويلة، مؤكدًا في حينه أنه خيارٌ مرحلي.
وقد ضجت وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي في تفسير هذه الفقرة بالذات، حيث اعتبرها البعض نزولًا إلى ما قبلت به حركة فتح في إعلانها عام 1988، إلا أن هناك العديد من الاختلافات بين هذين الموقفين، فمع قبول حماس بدولةٍ على أراضي الـ67 إلا أنها أكدت أنه لا يعني البتّة اعترافها بـ"إسرائيل" ولا بأحقيتها في الوجود، لكن إعلان فتح عام 88 شمل اعترافًا بقرار الأمم المتحدة 242، والقرار 338 بما يشملانه من الدعوة لنبذ الإرهاب (وهو التعبير الذي أطلق على المقاومة المسلحة)، كما ورد في إعلان فتح القبول بقرار 181 الذي ينص على إقامة دولتين إحداها عربية والأخرى يهودية، وهذا يشمل اعترافًا صريحًا بحق دولة "إسرائيل" في الوجود.
وبصرف النظر عن الموقف من هذه النقطة، لكن من الواضح أن إعلان حماس بقبول دولةٍ على أراضي 67 جاء متأخرًا، خاصةً مع ما يدور الحديث حوله الآن في أورقة السياسة عن حل الدولة الواحدة ثنائية القومية، أو تحويل مدن الضفة إلى كانتونات معزولة بإدارة محلية دون تمثيل سياسي، ومع اختلاف هذه الأطروحات جميعها، فإن حل إقامة الدولة الفلسطينية (حتى مع الاعتراف بإسرائيل) لم يعد الاحتلال يقبل به ولم يعد حتى مطروحًا في هذه الفترة، خاصةً مع الانقسام الفلسطيني الحاد وتوجهات عباس نحو عزل غزة والتعامل معها كإقليمٍ متمرد.
ومع كل هذا تبقى سياسة حماس على الأرض وآلية تطبيقها لما جاءت به وثيقتها السياسية الجديدة والتعامل مع كل هذه التعقيدات السياسية والمستجدات، هو الفيصل في الحكم عليها، حيث لا شيء يؤكد وجود تنازلٍ حقيقي من حماس تجاه موقفها من الاحتلال، وعلى الناحية الأخرى لا شيء يعطي ضمانةً أكيدة على ثباتها أمام كل مشاريع التسوية والضغوط الاقليمية والدولية، وعدم تقديم تنازلاتٍ حقيقية في قادم الأيام، ولا شك أنها أمام بوابةٍ مشرّعةٍ من التحديّات القاسية طالما أنها اختارت عبر هذه الوثيقة الجديدة الخوض في طريق السياسة، مع رحيل السياسي المحنك الذي تصدّر وجه حماس السياسي طيلة الفترة الماضية الأستاذ خالد مشعل، والذي يودع منصبه لصالح قيادةٍ جديدة يتوقع أن يخلفه فيها إسماعيل هنية.