كلما هممتُ بالكتابة عن وصف قريب معقول للسجن وواقعه قلتُ في نفسي يستحيل لمن لم يدخل تلك الزنازين وتلك الغرف المظلمة ويتلوّى بين جدرانها الصمّاء جوعاً وقهراً وحرماناً ، وكدراً لا تطيقه النفس ولا تستسيغه أن يدرك حجم المعاناة والمأساة أو أن يحظى بذلك القدر الكافي من تلك الملامح المنسدلة على جبين الزمان المرّ تكشف عن تفاصيل بسيطة صغيرة لكنها تحرق النفوس وتكوي بنارها تلك الجباه والهامات وتحطمّ على أعتابها الإنسان فتحوّله إلى إنسان آخر متمترس خلف طقوس جديدة غريبة محملاً بالآلام والأوجاع تتلاطمه الأمواج الهادرة في واقع يمضي بطيئاً في الوقت الذي يتسارع فيه الزمان خارجاً وكأن عقارب الساعة صدأت تحت مزراب المياه الراكدة هنا ..
إن الحديث عن التفاصيل الدقيقة ليضفي على الحياة اليومية ألواناً من الرتابة والشقاء ودهراً من الملل القاتل حيث الضيق والحصار والتنغيص يمتد ملامساً الماء والهواء والأكل والشراب وحتى طقوس النوم في تفاصيلها، يلامس الكرامة حيث لا قيمة لمحظور ولا لخط أحمر أو غيره.
حيث يغدو من الصعب إسقاط أدق تلك التفاصيل أو نسيانها من مسلسل الحياة اليومي فهي بحدّ ذاتها قصصٌ تُروى في يوم من الأيام – ولو على خجلٍ أحياناً – تُشعرك بالقرب شيئاً فشيئاً لاستكشاف هذا العالم المميت حيث الحياة على شفا حفرة من الموت أو في وسط المعمعان حيث اللهب البركاني وحمم النار والدمار تغلي، وأنت تشقّ صراطك عابراً متمسكاً بالحياة مُكرهاً علّها يوماً تكشف عن وجهها الأجمل أو ينتهي بك المطاف في قعرها وقد أمسيتَ صورةً على جدار وذكرى لا يأبه بها إلا الأقربون قربى وحالاً وقد لا يكون.
ذات يوم وبعد عناء وطول انتظار تزورني والدتي الحبيبة في المعتقل فوصلَتْ بعد سلسلة من الاجراءات المكللة بألوان من العذاب تمثّل بالتفتيش والإهانة والانتظار وحضرت مرهقةً متعبةً وحال بيننا عند المشهد الأخير ذلك الجدار الأصمّ ، وحين تبادلنا النظرات والدمعات الدافئة وفي خضمّ معركة اللحاق بالوقت قبل أن ينقضي جاءت سجانة خرقاء بوجهها القبيح الأفطس محمّلة بالحقد القادم من أطراف الأرض وشتاتها لتقطع دفء حوارنا ، أخذت تتمتم بالعبرية المشرّبة بلغات الحقد والمكر لتعلن انتهاء الزيارة ثم ناولتني صوراً أحضرتها أمي ، فالتفتّ إليها ثم أدرت وجهي نحو أمي : أتدرين يا أماه – والقلب يعتصر ألماً – هذه الخرقاء من تحتجزنا ، هذه من تُغلق الباب علينا ، هذه من تفتشنا حيناً وتقودنا من سجن لآخر أحياناً ، هذه يا أماه تتفنّن في نقش الجرح في دواخلنا ، أتدرين يا أماه لعل كلماتي هذه تختصر لكِ الحكاية ولعل بقية التفاصيل تسقط عند مثل هذه المواقف غير أنها ليست كل الحكاية ولا جزءاً يسيراً حتى من بعض فصولها الطويلة.
فالسجن حروف من ألم يترنح الموت بين جنباته بين جدران أربع لا تعرف الرحمة، لا تدري أتنجو من لظى نارها أم أن الوقت قد فات، في السجن يرحل الرجال وقد لا تجد صعوبةً في معرفة من سيغدو فريسة الموت القادم من خلف الأسلاك تحت غضبة الأصفاد ومن يغتاله الإهمال وتحرقه تجارب دهانقة المكر والإجحاف والدهاء المتسترين بنصاعةٍ تتوارى خلفها أغشية من السواد.
تفكر كثيراً حينما ترى رفاقك يسقط أحدهم على وجهه مغشياً عليه يغشاه الألم على محراب الصلاة أو في ساحة ”الفورة” وإدارة السجن لا تحرّك ساكناً وهي تراه يتلوّى فاقداً وعيه وموشكاً أن يفقد حياته، سيتعمق الفِكر فيما أسقطه وفيما أرداه صريعاً وفيما لو كنتَ مكانه، ترى أحدهم يمشي إلى جانبك يرافقك في زنزانتك يقاسمك غرفتك والوجع سوياً، يموت موتاً بطيئاً، جسدٌ يتقلص وورمٌ يتمدد وإنسانٌ على وشك أن يضيع وحياةٌ لا تشبه في عوالمها أي حياة، سترى العجوز الستينيّ لا يقوى على الحراك يُبصر بنصف عين أو أقلّ، ترى المقعد الذي بُترت أقدامه أو أقعده التحقيق والمرض وآخر مشلولاً لا يقوى على الحراك أبداً يحتاج من يحمله ويعيله وآخر تفتك الرصاصات بأنحاء جسده وينهال الألم عليه أفواجاً يُصارع الموت في "مسلخ الرملة".
ترى الضرير والمريض والكهل والعجوز ، ترى الأطفال يملؤون البوسطات يختنقون بلهيب أوارها وهم يرتسمون كلوحة حزينة بريئة على جدران زمن يُمعن في الضياع، سترى خلف تلك الجدران الصماء حروف الوجع تنسدل على كل زاوية وكل بقعة تخطّ القهر أزمنةَ من العذاب، سترى ما قد تتمنى الموت على أن تراه، تبكي دماً وقهراً وتتلوّى وتقول لو أني لا أبصر أبداً يوم ترى طفلةً يجرّها السجان الأرعن إلى التحقيق أو إلى المحكمة أو إلى زنزانتها وشابةٌ في مقتبل العمر تتوسّد الأرض الباردة في زنزانتها في أيام كانون تتأوّه من شدة البرد وتستغيث ولا مِن مجيب، ستنكّس رأسك يوم تدري أنها كانت تجاورك في زنزانتك وما علمتَ بذلك إلا حين سمعتَ صراخها وهو يقذف في مسمعك وفي ضميرك حيرةَ المسلوب إرادته ويستصرخ فيه كرامته وكرامة أمته تراهم بعد ذلك وقد اقتادوها إلى ”البوسطة" في مرحلة جديدة من عذاب ظلماتها الثلاث، والبوسطة قصة وجع أكبر من أن ترسمها الحروف في بضع سطور، تسافر عبر الزمان والمكان في صور يختزلها العقل وجعاً يُنبئ عن جرحٍ آخر متجدد لا يندمل، ترى الأم وهي خلف تلك الأسلاك تحدّثها نفسها عن أبنائها يكاد الموت يتخبّطها قهراً على فراقهم، تتمنى الموت على أن تتبادر إليك تفاصيل حياة الأسيرات الماجدات القاصرات فيهن والأمهات في ”الدامون وهشارون”، ستغمض عينيك وتُقفل أذنيك على أن تسمع خبراً مفاده أن السجان يتفنّن في إذلال الكرامة وإخماد الرجولة وإعلان التحدي لكل ذرة فيها يوم أن وضع نفسه سجاناً يتلذّذ في عقاب نسائنا وإذلالهن وتفتيشهن وغلق الأبواب عليهن بل ويتمادى ويماطل في أن يخصص لهن حتى طبيبةً نسائية تعتني بهن بدلاً من ذلك الوحش الدنيء المتستر بالإنسانية.
ستتوقف لحظةً وأخرى وستحاول جاهداً إخفاء دمعتك الحارقة حين يرجع صدى إجابة سؤالك لأحدهم عن أمنيته بعد اثني عشر عاماً في الأسر يراوح زنزانته والقيد يلفّ معصمه تسابقك العبرات دون الإجابة المحترقة بنار الوجع، سُيبكيك جواب الطفل إذ دخل السجن طفلاً ولا زال طفلاً جلّ أمنيته: هل يا ترى أستطيع ضمّ والداي المريضان فأشبع نهمي قبل أن يرحلا، وطفل آخر أخذ السجن منه عمراً فاق العقدين كانت تساؤلاته تُدميك وهي تخطّ سكينها في صدرك يوم ترى دمعته بعد أن أطرق له "المذياع" نبأ وفاة والده على حين غرّة: هل مِن نظرة أخيرةٍ على جثمان والدي قبل أن يدفنوه، إنه يقاسمك غرفتك وتقاسمه بعض أوجاعه تحاول جاهداً أن تزرع في قلبه بعضاً من الأمل المصطنع في زحمة الفراق، تتزاحم الأسئلة دون مجيب وليس إلا صدى الصوت يزاحم العبرات والأمنيات.
ما بين جدران السجن تتربع إلى جانب الأرواح المعذّبة فيه ملامح من القهر تزيد من عذاب تلك الأجساد والأرواح فإذا ما ذُكر ظلامه الدامس بانت ”البوسطة” في سطور المعاناة الأولى تتوّج الجرح والألم، صندوق أسود، وقبر متحرك يطوف بك أقصى البلاد وأدناها ولا ماء ولا هواء، قفص يحوي قفصاً وقيدٌ يلفّ المعصمين وقيد يمزّق القدمين وساعات سفر تمتد إلى ما لا نهاية، ستنبت الأمراض في جسدك نبتاً وتغولاً بعد أن تستمدّ الجراح غذاءها من تلك المقاعد الحديدية التي لا تتحدث إلا بالعذاب ، وحبة ”الأكامول” وصفة العلاج السحريّ الدائم في سطر ليس ببعيد عن سابقه حين تتراءى أمامك عشرات ومئات حالات الإهمال الطبي، وستدرك حينها كيف لأعداد المرضى أن ينضم إليها في كل يوم "شهيد" مع وقف التنفيذ، وفوق الجدار جدار يحجب شعاع الشمس وضوء القمر وإيماءة النجوم وبريقها، وخلف الأسلاك أسلاك تحاصر الغرف والمداخل وأبواب وأقفال.
ستمضي عليك السنين دون أن يُسمح لك برؤية أولادك أو أن تضمّهم إلى صدرك، ستُحرم رؤية الأم والأب والزوجة والخلان فتُمنع من الزيارة لأسباب واهية وبحجج فارغة، وقد ترزح في اعتقالٍ إداري لا نهاية له تلوح في الأفق والتهمة لا شيء!! وقد يُباغتك الاعتقال الإداري بعد أعوام طويلة من الاعتقال هكذا دون سابق إنذار!! ستطلّ عليك المناسبات والأفراح والأحداث بحلوها ومرّها وسيُطلّ عليك رمضان وستفتقد لمّة الأهل والأحباب وسيتلوه العيد وأيّ عيد لينكأ الجرح المتجدد ولربما تُمضي أياماً وشهوراً وأعواماً في العزل الانفرادي لا ترى ولا تسمع أحداً ولا تدري فلعلك بقيتَ وحدك على وجه البسيطة فلا مَن يردّ إليك تساؤلك ولا يمسح عَبرَتك هناك تحت الأرض، في قبرٍ لا ينفذ إليه سوى صوت خلخلة القيود وصوت مزراب المياه كأنها طلقةً خرجت من بندقية.
ستحاول إرهابك الجحافل والوحدات والجنود المدججة وستتعرف مع مرور الوقت إلى وحدة ”المتسادا واليمام واليماز والدرور" وأنت تراها مقبلةً نحوك في منتصف الليل تقذف حقدها جنباً إلى جنب مع قنابل الغاز والصوت والضرب والتنكيل لا تملك أمامها إلا الصمت أو إعلاء كلمة الله بصوت يلجم أزيز جبروتهم، يُعلي عناوين الإباء في صدورٍ عاريةٍ إلا من الإيمان ، فثمة أمل باقٍ في الأحشاء.
عن أي التفاصيل يحكي الأسير حكاياه وجزء كبير منها يُلامس وجدانه ويلامس قلبه المتعطّش للحرية وهو لا يزال يحظى بفتات من الأمل وقد يُبالغ حيناً في توجيه سهام الألم يدفعها عن نفسه إلى مَن يخشى أن يخدش سعادته وهناء معيشته إلا أن الحقيقة المرة لا بد لها أن تصل كي تكون شاهدةً على حقبة من الألم والوجع والقهر والتنكيل لم يأنِ لها أن تنتهي بعد.
في السجن ستلتقي بأسرى من زمن "الديناصورات" سيُخبرك "نائل البرغوثي" عنهم وسيحدّثك "كريم يونس" هو الآخر عن الحياة مع بدلة الإعدام أياماً ثم شهوراً ثم شهيداً حياً مع وقف التنفيذ!! في السجن سترى ملايين السنوات تتجمد على عتبات الزنازين تقف وقوف الدهر صمّاء صامتة، في السجن لوحات رُسمت بمداد من العطاء والأنفة والكبرياء يجيء في سطورها الأولى نحو 7000 صنديد يرسمون فلسطين بأرواحهم المعذّبة لوحة قدسية تأبى الانكسار.