"بدك تصير مثقف، بدك تصير مثقف مشتبك، مابدك مشتبك، لامنك ولا من ثقافتك".. هو نظمٌ بسيط يستحضر ذاك الذي عاش "نيصًا" ومات كـ"البرغوث"، أعترف للمرة الأولى أنه أحد أبرز محفزاتي على الكتابة بعد قراءة تدويناته، وآخر الذين أيقظوني لأقول شيئًا، ومن أنا لأقول!.
"المثقف المشتبك" ذاك، عليك أن تلاحق كلماته، ففي كل حزمة منها ملخص لكتيب يدور في الدماغ، ويجب الإصغاء جيدًا إلى فلسفته "الثائر والحرامي" لإدراك كيف توارى عن الأنظار ستة أشهر كاملة، طارده المحتل خلالها قبل أن يقع الاشتباك الأخير.
ليست القضية مجرد قطعتي سلاح للصمود، فعقل باسل مسلح بالأفكار، ولا بدّ من التيقن أن النظّارات السميكة تلك وسمرة الوجه يلحّان بقوة للاطلاع على مبادئ التحليل والفلسفة قبيل الخوض أكثر في كنفه؛ أملًا ببلوغ خطاب العقول.
معرفتي الشخصية بباسل طفيفة جدًا مقارنة بآخرين عايشوه، لقاء خاطف هو الذي جمعني به ذات يوم حين كنت أقل قدرة على القراءة والكتابة.
ذاك الصيدلاني متواضع جداً، ولا ضير لديه بالتنازل لعامة الناس والتماهي معها، على عكس من شقّوا طريقا في النضال يوازيه طريق رياء، وأصبحوا قادة يصعب على فئات الشعب رؤية وجوههم أو الحوار معهم، وكأنهم بتعجرفهم امتلكوا القضية.
الفلاح ابن القرية كان منفتحًا على فئات شعبه كافة، فلم يتنكر على أي منها كما هو حال معظم أبنائها للأسف، وبانفتاحه على فلسطينييه تزيد سيرته بقاءً وأثرًا.
الآن حيث وجد فلسطيني وجدت روح باسل حاضرة، فكيف لك أن ترى ابن الوحدات واليرموك وعين الحلوة.. والمخيمات... والجاليات القريبة منها والبعيدة، ويوحدون السيرة والمسيرة والصورة و"الهاشتاغ" بدرجة لا تقل تفاعلًا عن ذوي الشهيد ورفاقه وأبناء قريته، للأمانة لم نعتد على ذلك منذ زمن، بأن يجتمع الجميع كمّا ونوعًا.
ومؤكدًا على دور اللاجئين وضرورة تصدرهم المشهد؛ عاش باسل، فمن حقه البقاء في ذاكرتهم، وبالمناسبة، فالناقمون اجتمعوا عليه أيضًا، وحتى قليلو الثقافة استشعروا به، وهنا الميزة بفرزه لنا إلى فريقين.
وما إن تتحرر أفكار الفتى حتى يترفع على الانتماءات الصغيرة ويرتقي على جميع من حاولوا احتواءه، وهي حالة مفقودة فلسطينيًا وعربيًا نظرًا للتجاذبات.
باسل هو استحضار لمثقفين قدامى مناضلين، جرى تمييع أي حالة مماثلة لهم مؤخرا. فيه إرث من غسان كنفاني وماجد أبو شرار. وباندماجه مع الفئات القاعدية واحتكاكه بها يشبه ناجي العلي. أو كأنه روح (الشاعر الشهيد) عبد الرحيم محمود تقول: "سأحمل روحي على راحتي"، بأن مزجًا بين الثقافة والمواجهة.
الأعرج يقول، "منذ متى لا أدري ولماذا أيضًا لا أدري، نمت علاقة غريبة بين الفلسطيني "بالمعنى الواسع ليشمل بلاد الشام وليس بالمعنى الانتدابي "وبين النيص"، فعساه هنا يستحضر بعضا من أرواح شهداء كاتم الصوت، أو أن دماغ الباسل اعتقدت بالمثقفين غسان الشهابي وخالد بكراوي شهيدي مخيم اليرموك، وقفزت نبضاته لمقبرة الشهداء في مخيم خان الشيح.
يشبه كثيرًا الشهداء طارق الخضر وأنس عمارة وأحمد الكوسى بأن قضوا جميعًا في رحلة عشقهم لفقراء المخيمات، فأينما تنقل هذا الكائن الكنعاني بدت تضاريس وجهه متوقّعة، وطريقة الحب لديه ثابتة، واسترسل بالحديث عن أشياء أعمق من ملامحه وأكثر قربًا لبيئته.
والمفارقة أن معظم من تستحضرهم روح باسل شهداء!؛ فهو خلاصة نشأت ملحم وبهاء عليان، الموجود في ملامح عمر النايف سفيرًا لحالة فلسطينية طهُر شبابها وقبُحت قيادتها.
ولربما تقمّس الباسل أرواح 12 مليون فلسطيني!؛ فمراحل اعتقاله وتعذيبه في سجون السلطة وكشفه من قبلها أمام الأعداء، لا تختلف كثيرا عن مراحل التنكيل بأبناء جلدته الفلسطينيين في سجون عربية، وكأنه استذكار لذرية القهر والتعذيب استشهدت بأيدي الأخوة الأعداء، وأخضعت بعدها لمحاكمات غيابية مرفقة بالتوعد للأهل والرفاق، ولا فوارق هنا بين القاتلين صهاينة أو عربانا.
وبذكاء يصير "المثقف المقاتل" مغربيا صاحب لكنة عربية ركيكة بغية التخفي، فهو "ممثل عظيم" كما قال صاحب الشقة المُستأجرة في البيرة.
وفي تواريه عن الأنظار عزلة نحو التفكر وابتعاد عمّا يعرف في بشريتنا بـ"نهج القطيع"، فمن الجيد الانفراد بالنفس للتأمل واكتشاف مواطن الصواب والخطأ قبل الرجوع إلى الجماعة.
النتيجة المستنبطة من وحي خريج الجامعات المصرية، هي أن وصيته بدأت بتحية "العروبة فلم تتنكر على ثائرين مناضلين في ساحات عربية وعالمية، ولتقصي الزاعمين أن الشعب الفلسطيني هو الوحيد المناضل والمثقف في العالم؛ باعتبارهم ﻻ يتمنون له خيرا بل يسعون إلى عزله وحصاره.
وعطفًا على الأرقام المهولة الصادرة عن "القمة العالمية للحكومات" في دبي والتي تظهر نسبا مخيفة للجهل في العالم العربي، يصحّ الجزم أن باسل وأمثاله خسارة عربية فادحة!.
ذاك "النيص".. صاحب الحس الأمني، آكل الحنظل، ذو اللحم المرّ، المتألم، الحاقد على أعدائه والمقاوم بوخزاته العميقة لهم، هو البرغوث صانع الانتصارات الصغيرة في ممشيي المعركة المعنوي والملموس بالتزامن مع تآكل المعيل القوي ضمن نهاية لم تحن بعد، وتلك أفكار الأعرج لا تموت بل تسمح بالتحليق على اليابسة والسباحة في المياه الضحلة.
ولعلّ "ثلج الصين" أو "أم العبد" هي الفكرة التي لخص الشهيد بها خيار كل المقهورين في العالم، واعترف خلالها ضمنيا بوقوفه إلى جانب الثائرين المظلومين أينما حلّوا.
وبالإضافة إلى تأريخه أهم مراحل الثورة الفلسطينية، لخّص باسل العديد من العمليات الفدائية في مقاطع "فيديو" تداول أصدقاؤه بعضها، وهي محاضرات ألقاها في رحلات ميدانية إلى مواقع تلك العمليات.
الأعمق محاولاته توجيه الجهود نحو العمليات الفردية في ظل غياب الفعل الجمعي الفلسطيني، حيث يحاكي سيناريوات العملية بحنكة وكأنه المنفذ.
أما تلخيصه سيرة اليسار الإسرائيلي "المتعاطف" مع حدود دنيا لنضال الفلسطينيين والعرب "السلمي"، لا المناضلين، وتماثلها مع مدارس المستوطنين الأوروبيين في أرض الهنود الحمر، ومع طرح الحزب الشيوعي الفرنسي إبان حقبة احتلال الجزائر؛ وخلطهم جميعا للأوراق، فهي كلمات من الباسل كفيلة بعدم الوقوع في أي فخّ.
ولتأتي الوصية الأخير فتعكس قناعة وتواضعًا، وتفسح مجالًا للتحليل والقراءة في ضوء التساؤل الكبير عن الشهادة.
باسل العربيّ ذاك، يحاكمنا بأن يقدر على جذب الكثيرين بعد الرحيل فتظلّ أفكاره حيّة ترزق. ويحاكمنا حين تحاول سلطة من بلاط الحاكم العربي مقاضاته ميتا!، وحين تقمع محبيه.
وباستحضاره الذوات والأرواح الخيـّرة يحاكمنا، وبتساؤله العميق يصير القاضي المجمّع لأبناء شعبه شهّادا له في كل الساحات.
يحاكمنا الشهيد بقضية اسمها: "مات الجميع وعاش باسل"، الجنازة فيها محكمة الجناة وكاشفة العيوب.
باسل تتمة نفسه المتكاثفة قبيل الاشتباك جاءت مع تحية والده العسكرية قائلة: "بدك تكون مشتبك، بدك تكون مشتبك مثقف وخلوق، ما بدك مثقف وخلوق لا منك ولا من اشتباكك".
وبلا زخرفات؛ فهو مشروع مفكر شامل مطوّر، تأجّلت باغتياله جولات هامة، فلسطين ولّادة على أي حال، لكن كل شي يحتاج إلى وقت مستقطع.
لا أعلم إن صارت هذه التدوينة رثاء أم لا تزال على حالها، الأهم أن اغتيال باسل تلخيص لعلاقة الغزاة والطغاة بالمثقفين الأحرار أبناء البلاد المكافحين للخلاص.
ما يمكن الوصول إليه استنتاج بسيط؛ مفاده أن باسل الأعرج وأمثاله ﻻيموتون إطلاقًا.