شبكة قدس الإخبارية

باسل الأعرج... عندما تكون المقاومة حاجة

فيصل الرفاعي

الحديث عن الشهداء له طعم آخر، فنحن نتحدث عن هؤلاء الذين وقعوا بين الحياة والموت، بين الحياة بمعناها الروحي، وبين الموت بمعناه المادي فقط، وهو غياب الجسد، وإذا أردنا الحديث عن شهيد مثل باسل الأعرج ابن بيت لحم، فإن الأمر يصبح ذو صعوبة أكبر.

تعرفت على باسل الأعرج منذ أن كان يعمل صيدلانيا في مخيم شعفاط، وهو للوهلة الأولى يبدو كأي صيدلاني يعمل مقابل أجر مادي، إلا أن شكله الخارجي المبعثر يدفعك للغرابة قليلا.

شاب ذو شعر كثيف، يحمل هيئة المثقفين بنظارته الكبيرة المعروف بها، وبلهجته الفلاحية الأصيلة، وحديثه المتكرر بالأمثال الشعبية، كل ذلك مقدمة تجعلك تندهش عند محاولتك الحديث بعمق مع باسل، حين تكتشف أنه المثقف العميق البسيط، الإنسان المبتسم دائما، والذي على الرغم من ثقافته الواسعة إلا أنه يفتخر دوما بانتمائه للفلاحين البسطاء ولا يكاد يملك من الدنيا سوا ما عليه من ملابس.

كنت أسئله دوما ما الذي يدفع شابا مثلك للعمل في مكان عام وسط كل هؤلاء الناس في مخيم شعفاط، وكان دوما يجيب أن هؤلاء الناس البسطاء هم أوعى الناس بالقضية وهم أول من سيحمل عبئها إذا نادت عليهم يوما ما.

كان أول حديث ثقافي بين باسل وبيني حول كتاب "معذبو الأرض" لفرانز فانون، وأذكر يومها أنه قال لي "اذا قرأت هذا الكتاب وفهمت حروفه جيدا فأنت قادر على فهم كل صراعنا مع الاحتلال". وكنت أظنها مبالغة في حينه، إلا أنني وبعد قراءة الكتاب -صاحب الكلمات العميقة جدا- أدركت معنى كلمات باسل، وكانت هذه لحظة مفصلية في العلاقة مع باسل حيث بدأت اسميه "باسل فانون".

لم يكن الأمر الثقافي لدى باسل مجرد تنظير، وليس مجرد محاولات للفهم، بل هي أيضا محاولات عمل حقيقي على الأرض، وهو أمر أذكره تماما حين جاء باسل في يوم من الأيام متحمسا فسألته عن سبب ذلك، فأخبرني ببساطة بأنه قام بإغلاق مستوطنة "معاليه ادوميم" المقامة على أراضي القدس المحتلة!.

جلست للحظات لأستوعب الأمر، فقد كنت سمعت في الأخبار أن شبانا فلسطينيين قاموا باغلاق الطريق على مستوطني "معاليه ادوميم" وقامت الشرطة الإسرائيلية باعتقالهم قبل أن تفرج عنهم لاحقا.

وللأمانة فلم يكن باسل من النوع المفاخر الذي يتحدث عن أعماله أمام الناس، إلا أنه أحيانا كان يحاول أن يخلق نموذجا مثقفا من النوع الجديد، فلقد كان السؤال الذي يلح عليه أكثر الأوقات هو كيف يجمع الإنسان الفلسطيني بين أن يكون مثقفا، ومقاتلا، مع التركيز على "غسان كنفاني" كحالة نموذجية إلا أنها لم تتكرر.

وهذا السؤال هو ذاته الذي دفع باسل لعقد الكثير من الحلقات الثقافية بحثا عن الإجابة التي حصل عليها لاحقا والتي جاءت مختصرة مختزلة في نص صغير كتبه في وصيته التي خرجت بعد استشهاده "وانا الآن أسير إلى حتفي راضيا مقتنعا وجدت أجوبتي... وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد".

طوال فترة عمله في البحث والتأريخ الشفوي للمقاومة الفلسطينية كان باسل دوما يبحث عن حلقة خفية، تساعده على فهم ما الذي حدث، وما الذي كان يجب أن يحدث.

لم يتوقف عند كتابات غسان كنفاني بل ذهب بعيدا في الماضي يبحث ويدرس عن تجربة مجموعات الشهيد عز الدين القسام وثورة الـ 36، ثم حمل كل ذلك الإرث الى الزمن الحاضر وبدأ يقرأ تجارب الشهداء وسيرهم عله يجد تلك الحلقة المفقودة، فوجد نفسه يغوص في كتب الثقافة العميقة يبحث عن الدافع لجعل شاب في مقتبل عمره يحمل هم قضيته ويذهب إلى الموت بملئ رغبته، ثم كانت انتفاضة القدس.

معنى أن تكون المقاومة حاجة

لم تكن المقاومة بالنسبة لباسل الأعرج ترف فكري، أو مادة للحديث عنها، بل كانت كالمعرفة والثقافة تماما بالنسبة له، أو لربما هي كالأوكسجين الذي يتنفسه "حاجة".

أذكر أنه قال يوما في معرض حديث عابر عن وسائل التعليم الحالية ومناهجها "المعرفة التي لا تنفع صاحبها وقت الحاجة ما بتلزمه" وكان ذلك عند حديثه عن طفل يبلغ من العمر 12 عامًا، كان يفهم في الحياة الريفية أكثر منه هو الصيدلاني الحائز على بكالوريس من مصر والذي يقرأ كل يوم كتاب.

فإذا كان شرط المعرفة والثقافة لدى باسل هو الحاجة، فكيف تكون الحاجة أيضا شرطا في المقاومة؟

هذا ما كان باسل يبحث عنه، وهذا أيضا ما وجد الإجابة عنه في انتفاضة القدس، في حدثين مهمين تركا أثرا عميقا في نفس باسل، وهما استشهاد المثقف بهاء عليان، واستشهاد المقاتل نشأت ملحم.

من عرف باسل الأعرج جيدا يعلم أن حياته كانت تتأرجح بين حكايتين، حكاية الشهيد المثقف البهاء عليان من جبل المكبر، والذي استطاع تحويل نشاطه الثقافي من القراءة للكتابة، إلى كتابة تاريخ المقاومة بدمائه في القدس.

ولم يمضِ كثيرا بهاء عليان حتى جاء الشهيد نشأت ملحم الذي استطاع تنفيذ عمليته في وسط مدينة تل ابيب والانسحاب بهدوء والاختفاء عن الأنظار رغم مطاردة كل أجهزة أمن الاحتلال له إلا أنه اختفى بسهولة.

كان لاستشهاد البهاء وملحم الأثر العميق في نفس باسل، ما جعله يتساءل كثيرا ما الذي تميز به هؤلاء عنا، وكيف استطاع بهاء عليان المثقف البسيط أن يحول ثقافته من ترف إلى مقاومة، وكيف استطاع نشأت ملحم بثقافته البسيطة جدا أن يحول كل أجهزة أمن الاحتلال إلى مجموعة من العجزة لا تستطيع تحديد مكانه؟!

هذه الأسئلة السهلة المعقدة التي طاردت باسل قبل أن يصبح مطاردا، والتي جعلته يمتزج مع الأرض في لحظة ولادة جديدة للمثقف الثوري الذي قال الحقيقة عندما قال إنك "إذا أردت أن تكون مثقفا فيجب أن تكون مثقفا مشتبكا، وإلا فلا بك ولا بثقافتك"، حينما أدرك باسل الأعرج أن "الثقافة" كغيرها في حياة الفلسطينيين إذا لم يكن لها دور محوري فاعل وحقيقي على الأرض فلا حاجة لنا بها.

وبعيدا عن صراعات المثقفين وتحليلاتهم، فإن باسلا قد استطاع أن يقيم الحجة على كل من ادعى أن الثقافة تجعله منفصلا عن بيئته وأن المثقف أكبر من محيطه، فكما أن باسل كان قبل كل شيء مقاتلا بالكلمة، إلا أنه استشهد وهو يحاول إثبات أن للرصاصة الكلمة الأولى والأخيرة في الميدان.