فلسطين المحتلة - قدس الإخبارية: كان لانطلاق موقع صراحة صدى واسع دلّل عليه الإقبال الكبير على الموقع والتسجيل فيه خلال فترة قياسية بلغت ملايين المسجلين وملايين الرسائل المتبادلة مما يدلّل على أن الأمر بات يستحق وقفةً نخوض من خلالها في بحر من "الصراحة".
فهل كان الفضول الدافع الأساسي وراء انتشار الموقع كالنار في الهشيم أم أننا فعلاً بحاجة إلى الصراحة، ولكن أيّ صراحة تلك التي تجيء من المجهول ومن العدم ومن وراء حجاب لتصل إليك مباشرة!!، فأيّ باب تفتحه على نفسك بمصراعيه وتشرع في وجهك ألسنةً قد تكون حِدادا وقد تكون أرقّ من النسيم فتهيم بين الفرح والامتعاض وبين الراحة و"سمّة البدن"!!.
لقد كان الموقع في الأساس تحررا من عقدة الإنصات في حضرة الكلام الذي لا بد من إسماعه وإيصاله، إذ يتحدث صاحبه عن ضرورة ملحّة للموظفين لتقديم النصح لمديرهم وزملائهم بصراحة للارتقاء بعملهم دون الخوف من إمكانية معرفة هوياتهم لما قد يسببه من انعكاسات على مسار العمل.
لم يتعدى الأمر في بدايته – حيث اللاعشوائية وتغليب المصلحة والفكرة الإبداعية – سوى أن يتحدث الناس بصراحة، إذ لا بد من المصارحة والحديث دونما عمليات تجميل باتت تحشو لغتنا وواقعنا بعباراتِ مجاملةٍ مصطنعةٍ نتبادلها، خوفاً من مشاعر الآخرين أن تؤذيها تلك الكلمات الصريحة - وإن كانت قوية وصعبة ومؤلمة – تلك التي قد يستحقونها أو غالباً ما يكونون أهلاً لها، فباتت الحياة تتجمّل كثيراً بالنفاق، نفاق المشاعر والأحاسيس وصولاً إلى النفاق الأخطر المتمثل بالآراء الحقيقية حيث تتستّر خلف ستار من المحبة المصطنعة غير أنها تدوم طويلاً مما يتعذّر على المرء الإصلاح أو التغيير فيبقى على ما هو عليه إذ أن الجميع له "مطبّلون" ومعه متفقون وله مؤيدون، فيفرح المسكين لأنه لا يُخطىء ولأنه محل إجماع واتفاق وأن آراءه السديدة ومن قبلها أفعاله العظيمة تلقى الرواج والاحترام ولا مَن يقول له تلك الصراحة التي قد تغيّر من حاله فترتقي نفسه وهمّته وحياته فيبقى في ذلك القاع الذي يظنه قصراً.
ومع أننا لا نزال مُذ وعينا نرفع شعار "الصراحة راحة" إلا أننا ما زلنا نحتفظ بشعارات من قبيل "خليها في القلب تجرح ولا تطلع لبرّا وتفضح"، وشعارات التشجيع والحفاظ على معنويات الآخرين ومشاعرهم أو على الأخصّ حفظاً وحرصاً على العلاقات من أن تتبدّل أو أن لا يعود لها مكاناً إذ يخاف "الناصحون" غالباً من ردة فعل مَن ينصحون لأننا وفوق ذلك كثيراً ما ندخل في أعماق الناصح وشخصه ونيّته أكثر بكثير مما ندخل في معنى النصيحة وطبيعتها وأهميتها وتطابقها مع الواقع، وهل فعلاً حياتنا وعلاقاتنا وأحوالنا لا تشكو من عللٍ وأمراض، فلقد خرجنا وابتعدنا عن المضمون وتمسّكنا بالقشور، وباتت الأسئلة المتكررة تغزو حياتنا، مَن الذي ينصح؟! ولينظر إلى نفسه أولا؟! وكثير من ذلك القبيل الذي حيّد كثيرين عن تقديم النصح فبات النفاق واصطناع الكلمات والمشاعر سيد الموقف ولعلّه السمة التي تطغى على مجتمعاتنا حيث الترهل والضياع والرجوع إلى الخلف أبرز سماتها.
غير أن كل ما سبق لا يبرر لأحد بأن يستغل الصراحة لتتحول إلى الوقاحة!! وهذا ما لا يمكن إدراكه وتجنّبه فضلاً عن محاربته، إذا أن كل الذي يتستّر وراء الحُجُب يأمن من ردّة الفعل فمن أمِن العقاب أساء الأدب، فيستغل تلك المنابر للنيل من خصومه أو منافسيه بالكذب والتدليس ولربما الإيذاء ولو بشكل غير مباشر بل ويتعدّى الأمر حيث تدخل التكنولوجيا بوجهها القبيح ههنا في هذه الجزئية التي تُعرّض الفضوليين الذين لا يهنأ لهم بال إلا بمعرفة الكاتب وهنا قد يلجأ إلى المحظور وإلى التهافت خلف تطبيقات تجرّه رويداً وصولاً إلى دماره وإيذائه.
لم يكن الفضول وحده المؤدي إلى الضرر، فثمّة أعراض تؤدي إليها تلك "الوقاحة" المتسترة بغطاء الصراحة، حيث الإيذاء المتعمّد يبلغ مداه فترى بعض الرسائل في حدّها سيفٌ ورصاصٌ يخترق أفئدة المتصارحين فلا يهدأ لهم بال بعدها وصولاً إلى المشافي والعلل والأمراض النفسية.
لكن وكما حال كل جديد وكحال أي وسيلة يُستجلب النفع منها فإن الوجه الآخر من الضرر لا بد وأن يكون حاضرا، فلا الأخذ بكله راحة ولا في تركه ضرر، ولك أن تختار، لكنما حتماً لا تُعدم الفائدة حين يتعذر لك مقالة أن تقولها في العلن فتخسر قلوباً قد لا تتفهم مرادك، وقد يقول قائل إن الذي يحبك ويهمك يسمعك للآخر، فأقول له وقد يكون الآخر ذلك آخر العهد إن أُسيء الفهم أو القصد!!.
وما بين الراحة بالصراحة وسمة البدن بها أو بدونها يبقى الفيصل "أنت" ولك أن تعزّز قناعاتك وتطوّرها وتستفيد مما تراه يلامسك بعد أن تتصارح مع نفسك ومع واقعك أولاً حيث لا بد من أن تتخلى عن نفاق نفسك وطمأنتها والتعالي بها فوق أي خلل أو علّة لتنطلق وتكون الصراحة تلك الراحة التي تنشدها بعيداً عن كل ما يعكّرها من الأنفس المريضة التي تملأ الواقع أكثر مما تملؤه عبر الواقع الافتراضي.