الساعة الخامسة عصرا في صيف دمشقي حارّ... "الطابة" تناديني وضجيج رفاق حارة السهلية _مسقط رأسي_ بدأ يتعالى شيئا فشيئا خارج "قاع الدار" فلا بدّ من تلبية النداء.
تنتفض الحارة عن بكرة أبيها عندما يدنو "البرود" إلى المكان وتنكسر شمس الظهيرة... الآن يستطيع عمي ياسين (أبو أيمن) شطف عتبة المنزل، فيما جارنا أبو حمزة يسقي ياسمينته المزروعة على كتف بيته في وسط الحارة.
أما نحن أي الأولاد فالقاطع العرضي للحارة هو ملعبنا ومتنفسنا ومصدر رهابنا في آن معاً. فعلى جانبيه تتوزع بيوت "عضوات العيلة" الذين يكرهون "طقطقة" الكرة وتراكضنا وصراخ فرحتنا بتسجيل الأهداف. وأما المرميان فكل منهما محدد بعرض متر ونصف، الأول يرسمه حائط بيت جارنا الحموي وعامود الكهرباء الخشبي، فيما الآخر محصور بين حافة منزل أبو العبد السهلي وعامود ثان، وكأن الصدفة أوحت إلى موظفي شركة الكهرباء بنصب العامودين قبالة بعضهما لتهيئة الأسباب.
لا مفاجآت بأن يخرج أحد الأعضاء ويمزق الكرة، ولا بأس بتغيير موقع اللعب ثلاث مرات كل ربع ساعة رغم عدم توافق بقية جنبات الحارة مع معايير الأداء الكروي. ينتهي الأمر بالوصول إلى بوابة بيت "أبو أنور"، والأخير رحمه الله "ياما شقلنا طابات وقلّعنا"، ولسان حاله يقول: "روحوا من هنا"... على أي حال لا عودة للدار قبل مغيب الشمس.
جار آخر أتحفظ عن ذكر اسمه، كان يحاول زعزعة العلاقات بيننا وإيهامنا أننا كأولاد نتآمر على بعضنا في حزبين، لينتهي الأمر بفتنة وشجار يفشلان المباراة. إنه الخبث الشعبوي بأسوأ تجلياته!.
ذات مرة قررت مع "حمودة السهلي" صديق طفولتي أن نخوض تجربة فريدة.... حان وقت الصعود إلى سيارة نقل الدجاج التي يعمل عليها شقيقه الأكبر، فالأخير نسي إقفال الباب وصار بإمكاننا التسلل...بعدها بلحظات بدأ العبث بغيارات المركبة وصولا إلى اتخاذ الوضع "أنرييه"، ولتأخذ المركبة بالانزلاق نحو شارع المالكي الرئيس حيث المارة والسيارات... طبعا استطاع شباب الحارة إنقاذ الموقف من دون خسائر في الأرواح أو الممتلكات، ونلت مع حمودة شرف التجربة، وقسطا وافرا من التربية المنزلية، وللأمانة كانت "قتلة مرتبة من بابا".
أتخيلني في الصف الثاني الابتدائي، ليلا على فراش النوم، ألعب "طبّة" طامحًا للفوز في الصباح قبل موعد جرس المدرسة بدقائق... حان موعد الذهاب... اشتريت يومها واحدا من موضة الجرس البلاستيكي من على بسطة على باب مدرسة الكوكب التابعة للأونروا على دوار فلسطين وهرعت بالدخول منبسطا فرحا، لكن عريف المدرسة (الجاسوس الأكبر للمدير) لم يرقه المشهد وصادر الجرس، ذاك التافه يحتفظ بأجراس العودة ليبيعها لأصحاب القضية.
ولأنني لا أهوى لعبة الكبار ولا أرغب بممارستها، اتخذت لعبتي "العيش" و"الطميمة" ثقافة لي، فما أجمل الركض والتصادم مع مئات أمثالي المنتشرين في باحة المدرسة!، وما أحيلى الاختباء وراء جدران مكسوة بالطينة الخشنة وهي تمزق المريولة الكاكية الكئيبة!.... ما زالت أجراس العودة في مخزن العريف الجاسوس لا يعلم أي منا متى يفرج عنها ويسمح ببيعها بنصف السعر.
الأنا تطاردني وتكثر ثرثرتها معي فتصير "نحن"، على بوابة الملعب الذي غدا ساترا ترابيا...والدي يدرك جيدا مدى تعلقي بالكرة ويفضل اصطحابي إلى النادي العربي الفلسطيني نهاية كل أسبوع، إما للجلوس مع المتفرجين حيث أن لعبة الكبار لا تسمح بمشاركتي، أو للعبث بالحصى والتراب، والتزحلق على سقف الملجأ الأعوج، وكم هي ساذجة تلك الملاجئ، تقول لمن يرغب بقصفها: "ألق ما شئت عليهم فهم هنا أي اللاجئون"... لا يهم وإن قصفوا الملاجئ فجدتي الصامدة في المخيم المنكوب كانت تسقيني عصير البرتقال المغذى بالتفل، لتضفي عليه نكهة الصلابة الفلسطينية كي يشتد عودي ولا أصاب بالشظايا أو العشق.
شاكر... ذاك الرجل المنحوس الذي سميت بقايا البستان العفن الوحيد المتروك على حافة المخيم باسمه، ليصير ملعبنا. ولتصير ساعات نمضيها بإزالة الحجارة وتجفيف مستنقعات الوحل فيه، وقتا مستقطعا قبل أن نتمكن من اللعب لفترة لا تتعدى جزءا من فقرة الأعمال الشاقة... الحلم لا يتجاوز حدّه قبل أن يجيء غلاظ الوجوه الأكبر منا سنّا ويلعبوا ساعات وساعات، مختزلين طفولتنا كاملة ببقايا لعبنا ومشاهدة تراقص أرجلهم، فالفضل لهم بزراعة ستة سيقان على جانبي البستان قيل إنها تجعله لهم!
أظنني ما زلت أقفز من على سور ثانوية اليرموك للإناث، هاربا من عيون "الآذن" وبياع الفلافل وحارس حديقة البلدية، ومتوجها إلى الباحة بعد انتهاء الدوام وفيها الشلّة الكروية المهزومة من ملب شاكر عينها، حيث لا بدّ من تعويض خسارات سابقة.
افترضني حبيس نوعين من الصبية أنتجتهم مدارس اليرموك.. الأول ذكوري جداً يروقه سماع "الكفر" ليل نهار، إلا أن شتم أحد من أفراد أسرته قد يؤدي إلى معركة عنيفة على إحدى حارات الصياعة.. بصراحة "الشغلة شغلة مبدأ" برأيه... وأما الفريق الثاني فهم الزاهدون ولا بأس لديهم بشتم كل العائلة عن بكرة أبيها، فالتغاضي عن ذلك عظمة ورجولة، شريطة عدم النطق ببنت شفة واحدة فيها من "سباب الكفر" حتى لا تقع الواقعة، وهي مدرسة تربوية فاشلة أيضا، ولا إنكار بوجود مدارس أكثر اعتدالا وتهذيبا، إلا أن لغة الشارع كانت متربعة على أحد قاب القوسين وغيبت بقية لغات التفاهم.