خلال اعتقالي الأخير في سجن "عوفر" كان لي شرف التعرف أكثر على الشيخ باجس نخلة (أبو فارس) من مخيم الجلزون شمال رام الله، فقد عشت معه في نفس الغرفة لمدة زادت عن 4 شهور، كانت كافية لتلمس بعض جوانب شخصيته عن قرب.
قديما قالوا: "إن السفر يظهر معادن الناس ويكشف أخلاق الرجال"، أما اليوم فاعتقد أن السجن والأسر هو من يفعل ذلك، وأبو فارس واحد من هؤلاء الذين بدت محاسنهم دون تكلف أو تظاهر أو تصنع، كان يتصف بشمائل عدة رفعت من قدره وعلت من شأنه وزادت من إحترامه ومحبته بين عموم الأسرى بصرف النظر عن انتمائهم السياسي.
أبو فارس كان باسطًا اليد بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فالكرم في السجن يختلف عن خارجه، كان يشتري ويُدخل الملابس على نفقته الخاصة ويعطيها للأسرى الجدد وحتى القدامى منهم، توزيعاته لم تقتصر على سجن "عوفر" فقط بل شملت سجوناً أخرى، ففي إحدى المرات وعندما علم أنني متوجه لـ"معبار" سجن "مجدو" أعطاني بعض الملابس والطعام وطلب مني إيصالها للأسرى هناك.
مساء كل يوم كان يأتي وهو يحمل معه ما تيسر من لوازم الغرفة ونواقصها، كان بارعا في صناعة الحلويات وتوزيعها، متخصصا بحفلات الشحرور (الإفراج عن الإسرى) كل ذلك على حسابه الخاص، أبو فارس كان يعي أن لذة العطاء أعذب وأجمل من حلاوة الأخذ.
كان الرجل ورغم صعوبة السجن وشدة الأسر خفيف الظل، ذو شخصية مرحة يحب الفكاهة وسرد القصص الممتعة، كان مثقفاً واعياً، واسع الإطلاع، تعلم من تجارب الحياة أكثر مما قرأه بين سطور الكتب.
كان محباً للشعر يدوّن الأبيات الجديدة ويعلقها على سقف "البرش" ويرددها عدة مرات ليحفظها، وقبل هذا كان مواظباً على قراءة القرآن بشكل يومي، أما عند قيام الليل فتراه أول المستيقظين والمتجافين للمضاجع.
كنت أرى من خلال مواقفه القوية مع الأعداء والخصوم عزة المسلم وصلابة المؤمن، مواقف لا تنقله إلى دائرة التشدد ومربع الدعشنة، أبو فارس كان رياضياً لا يكتفي بمتابعة الدوري الإسباني، بل تراه يصحوا باكراً "بعد العدد مباشرة" ويبدأ برنامجه الرياضي الذي يمتد لأكثر من ساعة ونصف جرياً ولعباً للتمارين المختلفة، بعدها كان يذهب إلى الغرف يعطي المحاضرات والجلسات العامة السياسية والثقافية والفكرية والتنظيمية.
أما عن الرياضة الذهنية فقد كان محترفاً في لعبة الشطرنج، ماهراً في "كش الملك"، يحتل دوماً المرتبة الأولى أو الثانية في كل مسابقة ودوري، كان الشيخ باجس متواضعاً خافضًا الجناح، ليّن الجانب، لم يمنعه وصف "الأمير العام للأسرى" من الاختلاط بهم والاستماع لشكواهم وملاحظاتهم وحتى انتقاداتهم وعتبهم.
كان صبورا يتحمل الأذى الذي كان يقع من بعضهم، قادراً على استيعابهم والتعامل معهم بحكمة وطول نفس، فغرفته كانت ملاذاً لبعض "المأشكحين" (المرضى النفسيين) ومثيري المشاكل، وفي المقابل، كان أبو فارس يحترم المؤسسين ورجالات الرعيل الأول وينظر إليهم نظرة خاصة، دائما ما كان يقول لي أنه يتعامل معهم كما كان يتعامل رسول الله مع "البدريين" (الذين شهدوا معركة بدر)، فيغفر زلاتهم ويستر عيوبهم، كان يجلهم ويحترمهم ويقدر شيبتهم وسبقهم، يشاورهم ويستمع لمواقفهم ويجلها.
كان يهتم بشخصيته وأناقته بصورة كبيرة، يبدل ملابسه باستمرار ويستحم في يومه مرتين، فالنظافة في السجن من الأمور الحساسة عند الأسرى، كان يمد يده نهاية كل نهار عبر "الأشناف" (نافذة باب الغرفة) لاملئها له بزيت الزيتون ليسبّل به شعره الأملس.
اعترف أن أبا فارس وقف إلى جانبي وشد من أزري وقلل من شعوري بالغربة (فقد كنت الوحيد من مدينة نابلس بين 120 أسيرا جميعهم من المدن الجنوبية)، تعلمت منه الصبر وعدم الإستعجال بالحكم على الناس والتفاؤل بالمستقبل، وبشرني بقرب الإفراج عني عندما رأى ذلك في منامه.
مكث الرجل في سجنه 20 عاما بعضها في العزل الإنفرادي وإبعد إلى جنوب لبنان وما لانت له قناة، كان يتقدم الصفوف عندما يتراجع الوجلون، يواصل المسيرة عندما يتثاقل الآخرون، يدق على صدره عندما يتملم غيره، يقف عندما يجلس أقرانه، عشق فكرته وتشربها لحد الشبع.
أما خارج السجن فقد كان رجل إصلاح بين العائلات والأقارب والجيران وحتى الأزواج، كان الناس يدقون بابه ويطلعونه على أسرارهم ويأمنونه على أموالهم وأعراضهم، كان رجلا نقابياً واجتماعياً يساعد أبناء مخيمه ولا يرد أصحاب الحاجة والمعوزين.
حدثني أنه كان يجمع أطفال المخيم ويأتي بهم للمسجد يومياً ويعطيهم الحلويات ليحببهم ببيوت الله ودينه، أما في العمل السياسي فقد كان أحد رجالات حماس الذين عملوا في الخفاء وخلف الكواليس منذ نشأة الحركة وفي محطاتها الهامة، فشارك في اختيار مرشحي الحركة لخوض الانتخابات التشريعية والبلدية ورتبوا أسماء قوائمها في الضفة الغربية.
سألته ذات يوم من أكثر شخصية في حماس تراها واعية وصاحبة فكر استراتيجي؟ أجابني دون تردد الشهيدين: "جمال منصور وعادل عوض الله"، فمثل أبو فارس يعرف الرجال ويبرع في تقييمهم.