الخليل- خاص قُدس الإخبارية: إنها الثالثة والنصف فجرًا، تقول أم محمد أخذت أقدامي تنقلني كالعادة لغرفة المعيشة التي اعتاد محمد النوم بها على مقعد ضامر يعلوه شباك أبيض تُرك مفتوحاً من ضجيج ذلك اليوم المشمس.
لوّح لي بيده "يما خلص الجيش طلعو من البلد" حينها علت ابتسامة على قسمات وجهها لتنام كالعادة باطمئنان، ذهبت تجر أقدامها نحو غرفتها، ولم تظن يوماً أنها المرة الأخيرة التي يصدح بها محمد مردداً كلمة "يمّا".
تناول من على مقعده طعامَه المفضل، وكأسًا من الشاي وحلوى العاكوت وبيضة، نام قليلاً على أمل أن ينهض من جديد ليتابع عمله الصباحي الدائم والذي يصارع فيه قسوة الحياة برعاية إلهية، تقول والدته.
كان محمدٌ طالباً في المدرسة صباحًا، وبائعاً للحلبي ظهراً، ومُعداً للذرة مساء، لم يكن مجرد طفل، 15 ربيعًا علمته من الصلابة والقوة، كان الكل يرى فيه طفولة طموحة، وعندما تنظر إليه تقرأ في صفحة محياه الغض، إشارات لن يمحوها الزمان.
تركن أم محمد في زاوية الحجرة تنفرد بعالمها الخاص، تستأنس بتقليب الصور وتنقل حبات المسبحة بين الفينة والأخرى، تتنهد وتقول "نهضت على صوت رصاصات وقلت "الله يستر ويعين أمه!"
هذه المرة كان الصوت قريباً صاعقاً كالرعد لم تكن تعلم أن محمد هو الهدف؟ تكمل حديثها وهي تحمل بقايا ملابس محمد المغسولة بدمائه، "تركتو نايم وبعدها رحت أنام بعد نص ساعة، صحيت مع صوت الرصاص وبنفس الوقت سمعت صوت صراخ قوي بباب الببيت"، شدّتها أقدامها حينها للمشي بسرعة لتعلم ما حدث، تقول وهي تكفكف دموعها، "عند ما فتحت الباب أجوني يحكوا ويصرخوا "ابنك استشهد!"
أجبتُهم "ابني نايم، ابني نايم على الكنباية مستحيل"، "لم تجد من الجرأة لتستدير لترى مقعده، حتى قاطعتها ابنتها الصغيرة "يما محمد نط من الشباك" حينها كان لقلب الأم حسابات أخرى، لم تظن يوماً أن الإحتلال سيبعث بالويلات والمصائب لها، لكن رصاصة الغدر قالت كلمتها.
فجر الجمعة 20 حزيران عام 2014، كُتب اسم "محمد دودين" في لائحة الشرف، كان شهيدًا سطرته قائمة الوطن، وقدّر لدموع أمّه أن تبكيه أبدًا بفخر.
بكاء، يجمع ما بين ماضي مآساتنا وحاضر لا يرحم العواطف والقيم الإنسانية، تسيل دموعها كلما ذكرت قصة ابنها الشهيد وتقول، "ذهبت لأودّعه في المشفى كانت الرصاصة قد أخترقت صدره وخرجت من ظهره، كان يسبح في الدم، كنت أضع يدي عليه ما يطلع غير شيء بيلمع ما بعرف كنت مفكرتو دم!"، مضيفة، "ودعته لمستو حضنتو ما بكيت ولا نزلت ولا دمعة ما بعرف وقتها ربنا أعطاني الصبر كانت إرادتي قوية كنت في عز الصدمة"
تستذكر أم محمد وهي تختنق بأنفاسها من على مقعد محمد ترتشف قليل من الماء من خلف الطاولة التي شهدت ظل محمد وهو يتناول لقمه الأخيرة وتقول "الحمد لله إنو استشهد وما دنستو إيدي اليهود وما لمسوه"
يمر شريط الذكريات، وتقول "كان محمد يحب أن يساعد الناس لدرجة أنه كان يترك الأكل ويهبّ للمساعدة إذا ما ناداه أحد"، وكأنه كان يدرك أنه على موعد مع الشهادة حينما كان يقول لها "يما أمانة سمي إلي في بطنك محمد الصغير" لم يكن حينها يقتنع بأنه غير مقبول، فأقدار الله تنتظره وكلامه كان أكبر مما في وعي البشر.
في كل دهليز في البيت تستذكر أمه كل حركاته فتقول "كنت أحكيله يما يلا أشتغل في بيتنا الجديد عشان بكرا أجوزك فيرد محمد بلسان نطق بالقدر" يما أنا أشقر وعيوني خضر أنا ما بروح لحدا هم رح يجيوني لـ "عتبة الدار"
كثيرٌ هو الكلام، وقصة محمد هي واحدة من بين الآلآف من القصص التي يعيشها الشعب الفلسطيني، رغم رؤيتها بأم عينها ما حدث إلا أنها لازالت في صدمة كبيرة تعيش ما بين الحلم والواقع، وتظن أنها تعيش في خيال، ماذا يمكن أن نكتب؟
خير نهاية لرواية هذه القصة عن استشهاد البراءة الفلسطينية، هو ما قاله إدوارد سعيد "إن التاريخ وبخاصة تاريخ الضحايا يستمر في الوجود ولا يمحى بسهولة وهو يستطيع أن يستعيد الحياة بفضل نماذج من الشهادات الشخصية".