ودعت جماهير شعبنا ماهر الدسوقي التي عرفته وسمعت عنه بقلوبها ودموعها، وليس غريباً أن يشارك في جنازته العديد من الشخصيات من كافة الألوان والمشارب الفكرية والسياسية والاجتماعية، مع أنه لم يحمل لقباً قيادياً رسمياً في الجبهة، كما لم يكن منخرطاً بشكل رسمي في منظماتها، لكنه جسّد حضوراً قيادياً ميدانياً في العديد من ميادين العمل، أكسبه احترام وتقدير كل من تعرف عليه أو عمل معه.
قد يسميه البعض شخصية مثيرة للجدل، -وهو كذلك -، تتفق معه أو تختلف، لكنك لا تستطيع إلا أن تحترمه فشخصيته الفكرية والسياسية متماسكة ومنسجمة، متميزاً دوماً بالصلابة والمبدئية العالية، وبالإرادة والاستعداد غير المحدود لدفع أثمان باهظة دفاعاً عن قناعته.
لم يبحث عن مكاسب شخصية مادية ولم يؤجر قلمه يوماً، وفضّل أن يعيش متماسك حتى لو كلفه ذلك فقدان لقمة العيش، والانضمام إلى جيش العاطلين عن العمل، أسوة بالعديد من المثقفين الذين لم يحظو على فرصة عمل، رغم أن أبواب التسلق لم تكن موصدة أمامه فلديه من الإمكانيات والطاقة ما يجعله مطلوباً للعمل سواءً في مؤسسات السلطة أو المنظمات غير الحكومية، لكن موقفه المبدئي من أوسلو ومن مؤسسات السلطة أجبرته على العزوف عن العمل فيها.
وكذلك الحال فيما يتعلق بالمنظمات غير الحكومية ارتباطاً بموقفه الفكري المناهض للعولمة الرأسمالية، والذي أملى عليه الرفض القاطع للعمل في هذه المؤسسات التي يعتبرها أدوات للليبرالية والترويج لأفكارها، وإفساد النخبة الثقافية كأساس لإطباق هيمنتها في المجتمعات، خاصة في دول العالم الثالث.
وقد حدث أن استدعته القنصلية الأمريكية بعد نشره كراس انتقادي لاتفاق أوسلو، وعرضت عليه تقديم المساعدة في نشر ما يُكتب، لكنه رفض بشكل قاطع، وتكرر الموقف بعد أن شارك في ندوة تناقش دور البنك وصندوق النقد الدوليين في عملية التنمية في دول المحيط، فصلابة موقفه قطعت الطريق أمام كل من حاول اغراؤه أو شراؤه، فهو معدن غير قابل للذوبان في أي حامض؛ فاختار العمل الحر للحصول على قوت يومه وإعالة عائلته، فمن هو ماهر الدسوقي؟
نشأ الرفيق في أسرة متوسطة الحال حيث كان والده معلماً في المرحلة الابتدائية في إحدى مدارس وكالة الغوث، وكان نموذجاً للمعلم المخلص في عطائه، حريصاً على زرع قيم الانتماء للوطن في تلاميذه. فقد كنت أحد تلاميذه الذين يعتزون به وبعطائه الأكاديمي والوطني، وعندما التقيت ماهر لأول مرة في إحدى أنشطة العمل التطوعي في بداية الثمانيات، رأيته صورة حية عن والده، كان شاباً ممتلئاً بالحيوية والنشاط، وبالقيم الأخلاقية الرصينة، جدياً في أدائه لمهامه، مندفعاً متماسكاً، في انتمائه الوطني والاجتماعي والحزبي.
عايشته في تجربة تحقيق قاسية، حيث كان يُحقق معه على مشاركته في دورة تدريب الخارج، سجل فيها موقفاً صلاباً وشجاعاً، وعندما انتقل إلى السجن حرص على استثمار كل دقيقة من وقته في تثقيف نفسه إلى جانب ممارسته لدوره في العمل القيادي.
وخرج من السجن بعد أكثر من سنتين ممتلئ الحماس ليشارك في الفعل الانتفاضي حيث اعتقل إدارياً أكثر من مرة، وعندما التقيته بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات أو أكثر بقليل لم أجد أن حماسه قد فتر بل كان أعلى وتيرة مع تغيير نوعي في مستوى وعيه الفكري والثقافي.
ورغم اختلافه النسبي مع الحزب حول طبيعة موقف الجبهة من سلطة أوسلو، مطالباً إياها بموقف أكثر تجذيراً وحزماً يعكس جذرية رفض الجبهة لاتفاق أوسلو والسلطة المنبثقة عنه، وامتداد هذا الموقف على الهيئات القيادية القائمة، وضرورة عزوفها على الانخراط الرسمي فيها، إلا أنه لم يغيب دوره وكان حاضراً على الدوام في أكثر المحطات والظروف صعوبة.
وقد غاب عن الفعل المنظم العلني، لكنه لم يغب عن العمل الفعلي والمؤثر وشكّل بمبادراته خاصة إلى جانب العديد من رفاق دربه وأصدقائه لجنة حماية المستهلك، مسخراً عمله فيها بالتصدي للمتاجر التي تتعامل مع الاحتلال، ولعب دوراً تحريضياً جعله هدفاً من الرزم الفاسدة في السلطة وخارجها.
كما شكّلت مقالاته وتقاريره ضد الاحتلال والمستوطنين واتهامهم فيها بتلويث البيئة عامل ازعاج لسلطة الاحتلال . وفي عام 1998 أصدرت حكومة الاحتلال تقرير قدمته للإدارة الأمريكية عن التحريض الفلسطيني ضدها، واضعة اسم الرفيق الدسوقي من أبرز المحرضين على الاحتلال وسياساته.
وفي الحقل الجماهيري بادر لتشكيل العديد من اللجان النضالية العامة كلجنة التضامن مع العراق، ومقاومة التطبيع، والدفاع عن أوجلان، فضلاً عن دوره الإعلامي المميز في بعض المحطات التربوية التي حظي من خلالها باحترام وتقدير الحركة الوطنية من كافة الاتجاهات.
وكانت مواقفه وجرأته مزعجة لأجهزة أمن السلطة، وقد تعرض للاعتقال من قبل جهاز الأمن الوقائي تحت دواعي تقديم المساعدة لأحد كادرات حماس الذي كان مطلوباً ومطارداً من قبل الاحتلال والسلطة، وقد دفع ثمن جرأته ووضوح موقفه خاصة بعد أن أدار احتفال ذكرى انطلاقة الجبهة عام 2005 وفقدانه وظيفته الرئيسية التي كان يعتاش منها، وكان ذلك بتحريض من دوائر السلطة وأجهزتها الأمنية التي عممت على المحطات الإعلامية المحلية حظراً يمنع قبوله أو توظيفه، مما اضطره للعمل في أكثر من مهنة لتحصيل قوت يومه، وظل مرفوع الرأس قابضاً على جمر المبادئ التي شكّلت جوهراً لشخصيته الإنسانية والفكرية.
وفي السياق الاجتماعي جسد في ممارسته أعلى درجة من الانسجام مع القيم التقدمية الديمقراطية التي اعتنقها ليس فقط في آرائه المعلنة، بل أيضاً في علاقته داخل مؤسسة العائلة التي كونها مع شريكة عمره وزوجته الرفيقة خولة، حيث تقاطعت معه في الفكرة والقيم الثورية التقدمية واختلفت معه سياسياً ليشكلا عائلة وبيئة ديمقراطية نادرة نسبياً في المجتمع الذي تسوده العلاقات الذكورية. وقد جسد رؤية لينين وقد نجح في الامتحان الذي طرحه حين قال بما معناه " لا تسألوا روسيا عن حق ايرلندا في تقرير مصيرها وانفصالها عن بريطانيا، بل اسألوا روسيا عن حقها الملحقة بالإمبراطورية الروسية في تقرير مصيرها" ليتبين صدق موقفه من حق الأمم في تقرير مصيرها، فقد كان ماهر المثل الحي الذي لا تنفصم أفكاره عن ممارسته الواقعية.
هذه شذرات من اللوحة التي تشكّل شخصية ماهر الفكرية والسياسية والثورية والإنسانية بشكل عام، سيرة تركت أثرها الإيجابي على كل من عرفه، اتفق أو اختلف معه.
وداعاً يا رفيقي وصديقي الذي سأظل أعتز بالعلاقة التي جمعتنا معاً، وللرفيقة خولة التي أحترمها وأقدرها ومعها كل العائلة الكريمة، كل التضامن الرفاقي الحار معها، فذكراه ستظل خالدة ومصدر اعتزاز لنا جميعاً، ولمعلمي الأستاذ علي الذي سأظل اعتز به ما حييت. أقول صبراً يا أبا ماهر فعزاؤنا أن فقيدنا كان من خير خلف لأفضل سلف فأنت من زرع فينا قيم الصبر والتحدي.
أحمد سعدات